فصل: بيع منهيّ عنه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


بيع منهيّ عنه

التّعريف

1 - البيع في اللّغة والاصطلاح، سبق الكلام عنه في مصطلح ‏"‏ بيع ‏"‏‏.‏ أمّا ‏"‏ المنهيّ عنه ‏"‏ فهو صيغة مفعول من النّهي‏.‏ والنّهي لغةً‏:‏ الزّجر عن الشّيء، وهو‏:‏ ضدّ الأمر‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ طلب الكفّ عن الفعل على جهة الاستعلاء‏.‏

الأصل في البيع الحلّ إلاّ لطارئ

2 - أنّ الأصل في البيع هو الإباحة والصّحّة، حتّى يقوم الدّليل على الحظر أو الفساد‏.‏ والدّليل على ذلك هو قول اللّه تعالى في كتابه العزيز‏:‏ ‏{‏وأحلّ اللّهُ البيعَ‏}‏ فإنّه عامّ في إباحة جميع البيوع‏.‏ ودليل العموم هو‏:‏ أنّ لفظ البيع مفرد محلًّى بالألف واللام، والمفرد المحلّى بالألف واللّام يفيد العموم عند أهل الأصول، إذا لم يكن هناك عهد مطلقاً، ولا قصد إلى إرادة الحقيقة والماهيّة‏.‏ فصار حاصل معنى الآية‏:‏ أنّ كلّ بيع حلال، أخذاً بعموم اللّفظ‏.‏ غير أنّ أهل العلم لم يختلفوا في أنّ هذه الآية، وإن كان مخرجها مخرج العموم، فقد لحقها التّخصيص، لأنّهم - كما يقول الرّازيّ الجصّاص، وكما سيأتي - متّفقون على حظر كثير من البياعات، نحو بيع ما لم يقبض، وبيع ما ليس عند الإنسان، وبيع الغرر، والمجاهيل وعقد البيع على المحرّمات من الأشياء‏.‏

وقد كان لفظ الآية يوجب جواز هذه البياعات، وإنّما خصّت منها بدلائل، إلاّ أنّ تخصيصها غير مانع من اعتبار عموم لفظ الآية، فيما لم تقم الدّلالة على تخصيصه‏.‏

موجب النّهي

3 - موجب النّهي عند الجمهور التّحريم إلاّ بقرينة تصرفه عن التّحريم إلى غيره، كالكراهة أو الإرشاد أو الدّعاء أو نحوها‏.‏ وهناك خلاف وتفصيل ينظر في الملحق الأصوليّ‏.‏ وفي مصطلح‏:‏ ‏(‏نهي‏)‏‏.‏ فإذا وجدت قرينة أو دليل يصرف النّهي عن التّحريم، كان المراد بالنّهي الكراهة‏.‏ وهي لغةً‏:‏ ضدّ المحبّة‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ تشمل‏:‏

أ - المكروه تحريماً، وهو ما كان إلى الحرمة أقرب، بمعنى أن يتعلّق به محذور دون استحقاق العقوبة بالنّار كحرمان الشّفاعة، وهو المحمل عند إطلاق الكراهة - عند الحنفيّة - لكنّه عند الإمام محمّد حرام ثبتت حرمته بدليل ظنّيّ‏.‏

ب - كما تشمل المكروه تنزيهاً، وهو ما كان إلى الحلّ أقرب، بمعنى أنّه لا يعاقب فاعله أصلاً، لكن يثاب تاركه أدنى ثواب، فيكون تركه أولى من فعله‏.‏ ويرادف المكروه تنزيهاً

‏(‏خلاف الأولى‏)‏ وكثيراً ما يطلقونه أيضاً‏.‏ فإذا ذكروا مكروهاً‏:‏ فلا بدّ من النّظر في دليله‏:‏ أ - فإن كان نهياً ظنّيّاً، يحكم بكراهة التّحريم، إلاّ لصارف للنّهي عن التّحريم إلى النّدب‏.‏

ب - وإن لم يكن الدّليل نهياً، بل كان مفيداً للتّرك غير الجازم، فهي تنزيهيّة‏.‏ وبين المكروهين‏:‏ تحريماً وتنزيهاً ‏(‏الإساءة‏)‏ وهي دون المكروه تحريماً، وفوق المكروه تنزيهاً‏.‏ وتتمثّل بترك السّنّة عامداً غير مستخفّ، فإنّ السّنّة يندب إلى تحصيلها، ويلام على تركها، مع لحوق إثم يسير‏.‏

وإذا كان الحنفيّة قد صرّحوا بأنّ لفظ المكروه إذا أطلق في كلامهم فالمراد منه التّحريم، ما لم ينصّ على كراهة التّنزيه‏.‏ فإنّ المالكيّة نصّوا على العكس، فإنّ الكراهة متى أطلقت لا تنصرف إلاّ للتّنزيه‏.‏ وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فإنّهم يطلقون ‏(‏الكراهة‏)‏ على ما يراد بالكراهة التّنزيهيّة عند غيرهم‏.‏

أسباب النّهي عن البيع

4 - أسباب النّهي عقديّة أو غير عقديّة‏.‏ والأسباب العقديّة منها ما يتعلّق بمحلّ العقد، ومنها ما يتعلّق بلازم العقد‏:‏

الأسباب الّتي تتعلّق بمحلّ العقد

محلّ العقد‏:‏ وهو المعقود عليه‏.‏ ويشترط فيه الفقهاء جملةً من الشّروط‏:‏

الشّرط الأوّل ما يتعلّق بالمعقود عليه‏:‏

5 - أن يكون المعقود عليه موجوداً حين العقد ‏(‏أي غير معدوم‏)‏ فلا يقع عندهم بيع المعدوم، ويعتبر باطلاً‏.‏ ويتمثّل هذا في البيوع الآتية‏:‏ بيع المضامين، والملاقيح، وحبل الحبلة، وبيع الجنين في بطن أمّه‏.‏

والمضامين‏:‏ جمع مضمون، كمجنون‏.‏ وهي‏:‏ ما في أصلاب الفحول، عند الجمهور وبعض المالكيّة كابن جزيّ‏.‏

أمّا الملاقيح‏:‏ فهي جمع ملقوحة وملقوح، وهي‏:‏ ما في أرحام الأنعام والخيل من الأجنّة‏.‏ وفسّر الإمام مالك المضامين بأنّها‏:‏ بيع ما في بطون إناث الإبل، وأنّ الملاقيح بيع ما في ظهور الفحول‏.‏

وأمّا بيع حبل الحبلة فهو بيع نتاج النّتاج، بأن يبيع ولد ما تلده هذه النّاقة أو الدّابّة، فولد ولدها هو نتاج النّتاج‏.‏ ولا يختلف الفقهاء في بطلان بيع هذه الجملة من البيوع‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقد أجمعوا على أنّ بيع الملاقيح والمضامين غير جائز، وذلك لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة»‏.‏ ولقول سعيد بن المسيّب‏:‏ لا ربا في الحيوان، وإنّما نهي من الحيوان عن ثلاثة‏:‏ عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة‏.‏

ولأنّ في هذا البيع غرراً، فعسى أن لا تلد النّاقة، أو تموت قبل ذلك، فهو بيع معدوم وماله خطر المعدوم‏.‏ وعلّله الشّافعيّة بأنّه‏:‏ بيع ما ليس بمملوك، ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه‏.‏ وعلّله الحنابلة‏:‏ بالجهالة، فإنّه لا تعلم صفته ولا حياته، وبأنّه غير مقدور التّسليم، وإذا لم يجز بيع الحمل، فأولى أن لا يجوز بيع حمله‏.‏

6 - ومن قبيل بيع المعدوم أيضاً‏:‏ بيع عسب الفحل‏.‏ وقد روي في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ثمن عسب الفحل» ويروى‏:‏ «عن عسب الفحل»‏.‏ فقال الكاسانيّ فيها‏:‏ ولا يمكن حمل النّهي على نفس العسب، وهو الضّراب، لأنّ ذلك جائز بالإعارة، فيحمل على البيع والإجارة، إلاّ أنّه حذف ذلك، وأضمره فيه، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسْأل القرية‏}‏‏.‏

وذكر الشّافعيّة نحو هذا في تأويل الحديث، وطرقوا له ثلاثة أوجه من الاحتمالات، ونصّوا - كغيرهم - على بطلان بيعه، وقالوا‏:‏ يحرم ثمن مائة، ويبطل بيعه، لأنّه غير معلوم ولا متقوّم، ولا مقدور على تسليمه‏.‏

الشّرط الثّاني ما يتعلّق بمحلّ العقد‏:‏

7 - أن يكون المعقود عليه مالاً، بمعناه الفقهيّ الاصطلاحيّ، وهو‏:‏ ما يميل إليه الطّبع، ويجري فيه البذل والمنع‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ مصطلح‏:‏ مال‏)‏ فلا ينعقد بيع ما ليس بمال‏.‏ وذلك مثل بيع المسلم الميتة فإنّه باطل، سواء أماتت حتف أنفها، أم ماتت بخنق ونحوه من غير تذكية، وهذا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عليكم الميتة والدّم‏}‏ ولا يستثنى من ذلك إلاّ السّمك والجراد، لحديث‏:‏ «أحلّت لنا ميتتان ودمان‏:‏ فأمّا الميتتان فالحوت والجراد، وأمّا الدّمان فالكبد والطّحال»‏.‏ أمّا بيع الذّمّيّ للميّتة، فإن كان موتها حتف أنفها أي بغير ضرب ولا قتل - وهي‏:‏ ما تنفّست حتّى انقضى رمقها - فهي ليست مالاً بالاتّفاق‏.‏

وأمّا ما لم يمت حتف أنفه، بل مات خنقاً، أو بما يدين به الذّمّيّ، وليس تذكيةً في شرعنا فالرّوايات مختلفة عند الحنفيّة في جواز بيعه وفي فساده‏:‏ فالرّواية عن أبي يوسف الجواز، والرّواية عن محمّد الفساد، ولا رواية في البطلان‏.‏

وأمّا غير الحنفيّة، فلا يفرّقون بين ما مات حتف أنفه وما ليس كذلك في بطلان البيع‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على عدم جواز بيع الميتة أو شيء منها‏.‏

ودليل التّحريم حديث‏:‏ «إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» ويحرم ولا ينعقد بيع الدّم المسفوح، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو دماً مَسْفوحاً‏}‏ والتّقييد بالمسفوحيّة مخرج ما سواه، فإنّه يجوز بيعه، كالكبد والطّحال، وقد استثنيا من تحريم الدّم، بحديث

«أحلّت لنا ميتتان ودمان»‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الآنف الذّكر، ولا خلاف في ذلك، وصرّح ابن المنذر والشّوكانيّ بإجماع أهل العلم على تحريم بيعه‏.‏

وعلّة تحريم بيع الميتة والدّم ونحوهما عند الحنفيّة انتفاء الماليّة، وعند الآخرين نجاسة العين‏.‏ ومن صوّر انتفاء الماليّة في محلّ العقد‏:‏ بيع الحرّ‏.‏ وكذلك البيع به، بجعله ثمناً، بإدخال الباء عليه ‏(‏كأن يقول‏:‏ بعتك هذا البيت بهذا الغلام، وهو حرّ‏)‏ لأنّ حقيقة البيع‏:‏ مبادلة مال بمال‏.‏ ولم يوجد هنا، لأنّه ليس بمال‏.‏

وفي الوعيد الشّديد على تحريم هذا البيع، ورد حديث‏:‏ «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته‏.‏ رجل أعطى بي ثمّ غدر، ورجل باع حرّاً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً، فاستوفى منه ولم يعطه أجره»‏.‏

الشّرط الثّالث‏:‏ التّقوّم‏:‏

8 - وممّا يتعلّق بمحلّ العقد - بعد كونه مالاً - أن يكون متقوّماً‏.‏

والتّقوّم عند الحنفيّة ضربان‏:‏

عرفيّ‏:‏ ويكون بالإحراز، فغير المحرز، كالصّيد والحشيش، ليس بمتقوّم‏.‏

وشرعيّ‏:‏ ويكون بإباحة الانتفاع به، وهو المراد هنا‏.‏ فما ليس بمتقوّم من المال بهذا المعنى، وهو غير ما كان الانتفاع به غير مباح، يبطل بيعه‏.‏ ومن الفقهاء من استغنى عن الماليّة والتّقوّم، بشرطي الطّهارة والنّفع، كما فعل المالكيّة والشّافعيّة‏.‏

ومنهم من استغنى عن شرط التّقوّم هذا بشرط الماليّة، بتعريف المال عنده بأنّه‏:‏ ما فيه منفعة غير محرّمة، ويباح لغير حاجة أو ضرورة‏.‏ وهؤلاء هم الحنابلة‏.‏

فخرج بقيد المنفعة، ما لا منفعة فيه أصلاً‏:‏ كالحشرات، وما فيه منفعة محرّمة كالخمر‏.‏ وما فيه منفعة مباحة للحاجة كالكلب‏.‏ وما فيه منفعة مباحة للضّرورة، كالميتة في حال المخمصة‏.‏

9 - فمن أمثلة غير المتقوّم‏:‏ بيع الخمر والخنزير، فإنّه فاسد عند جمهور الفقهاء‏.‏ والمعنى فيه هو نجاسة عينه، ويلحق بهما باقي نجس العين، وكذا كلّ ما نجاسته أصليّة أو ذاتيّة ولا يمكن تطهيره‏.‏ ونقل ابن قدامة عن ابن المنذر إجماع أهل العلم على القول به ودليله حديث جابر المتقدّم‏:‏ «إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام»‏.‏ والحنفيّة فرّقوا بين بيع المذكورات بثمن أو بدين ثابت في الذّمّة، فهو باطل‏.‏

وبين بيعها بأعيان أو عروض، فإنّ البيع يبطل في الخمر، ويفسد فيما يقابلها من العروض والأعيان‏.‏ ووجه الفرق‏:‏ أنّ المبيع هو الأصل في البيع، وليست الخمر ونحوها محلاً للتّمليك، فبطل البيع فيها، فكذا يبطل في ثمنها‏.‏

أمّا إذا كان الثّمن عيناً، فإنّه حينئذ مبيع من وجه، مقصود بالتّملّك، ولكن فسدت التّسمية، فوجبت قيمته دون الخمر المسمّى‏.‏

وكذلك فرّق الحنفيّة في بيع المذكورات بين المسلم وبين الذّمّيّ‏.‏ وفي هذا يقول الكاسانيّ‏:‏ ولا ينعقد بيع الخنزير من المسلم، لأنّه ليس بمال في حقّ المسلمين‏.‏ فأمّا أهل الذّمّة، فلا يمنعون من تبايع الخمر والخنزير فيما بينهم لما يلي‏:‏

أ - أمّا على قول بعض مشايخنا، فلأنّه مباح الانتفاع به شرعاً لهم، كالخلّ وكالشّاة لنا، فكان مالاً في حقّهم، فيجوز بيعه‏.‏ وروي عن سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏‏"‏ أنّه كتب إلى عشّاره بالشّام‏:‏ أن ولّوهم بيعها، وخذوا العشر من أثمانها ‏"‏‏.‏

ولو لم يجز بيع الخمر منهم لما أمرهم بتوليتهم البيع‏.‏

ب - وعن بعض مشايخنا‏:‏ حرمة الخمر والخنزير ثابتة على العموم في حقّ المسلم والكافر، لأنّ الكفّار مخاطبون بشرائع هي حرمات، وهو الصّحيح من مذهب أصحابنا، فكانت الحرمة ثابتةً في حقّ المسلم والكافر، لكنّهم لا يمنعون من بيعها، لأنّهم لا يعتقدون حرمتها، ويتموّلونها، ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون‏.‏ فيقول ابن عابدين - رحمه الله - معلّقاً على عبارة الكاسانيّ‏:‏ وظاهره الحكم بصحّتها فيما بينهم، ولو بيعت بالثّمن‏.‏

10 - ومن أمثلة غير المتقوّم أيضاً عند الحنفيّة، الميتة الّتي لم تمت حتف أنفها، بل ماتت بالخنق ونحوه، فإنّها مال عند الذّمّيّ كالخمر‏.‏ وسبق الكلام عنها في شرط الماليّة‏.‏

11 - ويتّصل بغير المتقوّم‏:‏ المتنجّس الّذي لا يقبل التّطهير، كالسّمن والزّيت والعسل واللّبن والخلّ‏.‏

والمشهور والأصحّ من مذهب الأكثرين من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ عدم جواز بيعها، لأنّ أكلها حرام، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «سئل عن الفأرة تموت في السّمن، فقال‏:‏‏.‏‏.‏‏.‏ وإن كان مائعاً فلا تقربوه» وإذا كان حراماً لم يجز بيعه لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لعن اللّه اليهود، حرّمت عليهم الشّحوم، فجمّلوها ‏"‏ أي أذابوها ‏"‏ فباعوها»‏.‏‏.‏‏.‏

ولأنّها نجسة، فلا يجوز بيعها، قياساً على شحم الميتة، فهي في معنى نجس العين‏.‏

وقد قرّر المالكيّة أنّ مشهور مذهبهم هو عدم جواز بيعها اختياراً، أمّا اضطراراً فيصحّ‏.‏ ومقابل المشهور رواية وقعت لمالك، هي جواز بيعه، وكان يفتي بها ابن اللّبّاد‏.‏

قال ابن رشد‏:‏ والمشهور عن مالك، المعلوم من مذهبه في المدوّنة وغيرها، أنّ بيعه لا يجوز، والأظهر أنّ بيعه جائز ممّن لا يغشّ به إذا بيّن، لأنّ تنجيسه بسقوط النّجاسة فيه لا يسقط ملك ربّه عنه، ولا يذهب جملة المنافع منه، ولا يجوز أن يتلف عليه، فجاز له أن يبيعه ممّن يصرفه فيما كان له هو أن يصرفه فيه، وهذا في الزّيت على مذهب من لا يجيز غسله‏.‏ وأمّا على مذهب من يجيز غسله - وروي ذلك عن مالك - فسبيله في البيع سبيل الثّوب المتنجّس‏.‏ وجعل ابن جزيّ قياس ابن رشد ممّا أجازه ابن وهب إذا بيّن‏.‏ وأشار إلى الاختلاف في الاستصباح به في غير المساجد‏.‏

وفي قول للشّافعيّة، هو مقابل الأصحّ عندهم‏:‏ أنّه إذا أمكن تطهيره، بأن يصبّ عليه في إناء ماء يغلبه، ويحرّك بخشبة حتّى يصل إلى جميع أجزائه، جاز بيعه قياساً على الثّوب المتنجّس‏.‏ والأصحّ عندهم المنع من البيع، لتعذّر التّطهير، لحديث الفأرة المتقدّم، فإنّه لو أمكن تطهيره لم يقل في الحديث‏:‏ «ألقوها وما حولها» وفي رواية‏:‏ «فأريقوه» وكذلك الخلاف عندهم في بيع الماء النّجس‏.‏ فيجوز عند بعضهم، لإمكان تطهيره بالمكاثرة‏.‏

وجزم بعضهم بمنع الجواز، وهو المعتمد - كما يقول القليوبيّ نقلاً عن شيخه - إن كان دون القلّتين، وذلك نظراً إلى النّجاسة الآن، فإن كان أكثر من قلّتين صحّ عندهم‏.‏

وكذلك الحنابلة الّذين لم يستجيزوا بيع الدّهن النّجس، رووا عن الإمام أحمد أنّه يجوز بيعه لكافر يعلم نجاسته، وذلك لأنّه يعتقد حلّه، ويستبيح أكله، ولأنّه روي عن أبي موسى‏:‏ لتّوا به السّويق وبيعوه، ولا تبيعوه من مسلم، وبيّنوه‏.‏ لكنّ الصّحيح عند الحنابلة عدم الجواز لحديث ابن عبّاس المتقدّم‏:‏ «لعن اللّه اليهود، حرّمت عليهم الشّحوم فجمّلوها»‏.‏ ولأنّه لا يجوز بيعها من مسلم، فلا يجوز بيعها من كافر، كالخمر والخنزير، فإنّهم يعتقدون حلّه، ولا يجوز بيعه لهم‏.‏ ولأنّه دهن نجس، فلم يجز بيعه لكافر، كشحوم الميتة‏.‏

هذا، وأمّا الثّوب المتنجّس أو الإناء المتنجّس ونحوهما من كلّ ما يطهر بالغسل من المتنجّسات فقد نصّوا على صحّة بيعه، لما أنّه ينتفع به بعد التّطهير، وطهارته أصليّة، وإنّما عرض لها نجاسة يمكن إزالتها‏.‏

وقد أوجب المالكيّة تبيين النّجاسة مطلقاً، سواء أكان الثّوب - مثلاً - جديداً أم قديماً، وسواء أكان ممّا يفسده الغسل أم لا، وسواء أكان المشتري يصلّي أم لا، قالوا‏:‏ لأنّ النّفوس تكرهه، فإن لم يبيّن وجب للمشتري الخيار‏.‏

أمّا الحنفيّة فقد نصّوا - خلافاً للأصحّ المشهور عند الجمهور - على جواز بيع الدّهن المتنجّس، وهو الّذي عرضت له النّجاسة، وأجازوا الانتفاع به في غير الأكل، كالاستصباح به في غير المساجد والدّبّاغة وغيرهما‏.‏

وفرّقوا بين الدّهن المتنجّس وبين دهن الميتة، فإنّ هذا نجس، لأنّه جزؤها، فلا يكون مالاً، فلا يجوز بيعه اتّفاقاً، كما لا يجوز الانتفاع به واستدلّ له ابن عابدين - رحمه الله - بحديث‏:‏ «إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام‏.‏ فقيل يا رسول اللّه أرأيت شحوم الميتة، فإنّها يطلى بها السّفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها النّاس ‏؟‏ فقال‏:‏ لا، هو حرام»‏.‏

12 - ويتّصل بغير المتقوّم والنّجاسات والمتنجّسات، بيع عظم الميتة وجلدها وصوفها وحافرها وريشها ونحوها‏.‏ ومذهب الجمهور‏:‏ أنّه لا يجوز بيعها لنجاستها، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرّمت عليكم الميتة‏}‏ وهذه أجزاء الميتة، فتكون حراماً، فلا يجوز بيعها‏.‏ وقد جاء في الحديث‏:‏ «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»‏.‏ بل نصّ الحنابلة على عدم جواز بيع شيء من الميتة، ولو كان ذلك لمضطرّ، إلاّ السّمك والجراد والجندب، لحلّ أكلها‏.‏

أمّا الحنفيّة ففصّلوا في هذه المسألة بين غير الآدميّ وبين الآدميّ، وبين جلد الميتة قبل الدّبغ وبين جلدها بعد الدّبغ‏.‏ قالوا‏:‏

أ - إنّ جلد الميتة قبل الدّبغ لا يجوز بيعه، لما روي في الحديث المتقدّم آنفاً‏:‏ «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» ولأنّ نجاسته من الرّطوبات المتّصلة به بأصل الخلقة، فصار كلحم الميتة‏.‏ بخلاف الثّوب النّجس حيث يجوز بيعه، لأنّ نجاسته ليست بأصل الخلقة، فلا يمنع من جواز البيع‏.‏

ب - أمّا بعد الدّبغ فإنّه يجوز بيعه والانتفاع به، لأنّه طهر بالدّبّاغ‏.‏

ج - أمّا العظم ونحوه، فإنّه طاهر بأصل الخلقة، والقاعدة عندهم‏:‏ أنّ كلّ شيء لا يسري فيه الدّم لا ينجس بالموت، كالشّعر والرّيش والوبر والقرن والحافر والعظم - كما نصّوا عليه في الطّهارات - فيجوز بيعه والانتفاع به، ودليلهم على ذلك، كما ذكره الكاسانيّ‏:‏ أنّ اللّه تعالى جعل لنا هذه الأشياء، وامتنّ علينا بها من غير فصل بين الذّكيّة والميّتة، فيدلّ على تأكّد الإباحة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه جعلَ لكم من بيوتِكم سَكَناً، وجَعَل لكم من جلودِ الأنعامِ بيوتاً تَسْتَخِفُّونها يومَ ظَعْنِكم ويومَ إقامَتِكم، ومن أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها أثاثاً ومتاعاً إلى حين‏}‏‏.‏

ولأنّ حرمة الميتة ليست لموتها، فإنّ الموت موجود في السّمك والجراد، وهما حلالان بالنّصّ، بل لما فيها من الرّطوبات السّيّالة والدّماء النّجسة، لانجمادها بالموت‏.‏ ولهذا يطهر جلد الميتة بالدّبّاغ، حتّى يجوز بيعه، لزوال الرّطوبة عنه، ولا رطوبة في هذه الأشياء، فلا تكون حراماً‏.‏ بل نصّ الحنفيّة، ومنهم الزّيلعيّ، على أنّ لحوم السّباع وشحومها وجلودها بعد الذّكاة الشّرعيّة هي كجلود الميتة بعد الدّبّاغ، حتّى يجوز بيعها والانتفاع بها في غير الأكل، وذلك لطهارتها بالذّكاة‏.‏ يستثنى من ذلك جلد الخنزير، فإنّه نجس العين ‏(‏وكذا لحمه وعظمه وشعره‏)‏ فلا يطهر بالتّذكية ولا بالدّبّاغ‏.‏ وإن خالف في ذلك - فيما سوى الخنزير - بعض الحنفيّة، فقرّر الشّرنبلاليّ أنّه تطهّر الذّكاة الشّرعيّة جلد غير المأكول، دون لحمه، على أصحّ ما يفتى به، ويجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف بيع عظم الفيل والانتفاع به كسائر السّباع‏.‏ وعند محمّد لا يجوز، وهو عنده كالخنزير‏.‏

أمّا عظم الآدميّ وشعره، فوافق الحنفيّة‏.‏ الجمهور في أنّه لا يباع‏.‏ قال الكاسانيّ‏:‏ لا لنجاسته ‏"‏ لأنّه طاهر في الصّحيح من الرّواية، لكن احتراماً له، والابتذال بالبيع يشعر الإهانة‏.‏ وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «لعن اللّه الواصلة والمستوصلة» فنصّ الحنفيّة على أنّه لا يجوز الانتفاع به للحديث المذكور‏.‏ وصرّحوا بأنّ الآدميّ مكرّم شرعاً، وإن كان كافراً، فإيراد العقد عليه وابتذاله وإلحاقه بالجمادات إذلال له، وهو غير جائز‏.‏ وبعض الآدميّ في حكم كلّه‏.‏ وصرّح الكمال من الحنفيّة ببطلان بيعه‏.‏

بيع الكلب

13 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة، وهو المشهور عند المالكيّة إلى عدم صحّة بيع الكلب، أيّ كلب كان ولو كان معلّماً، للحديث الصّحيح عن أبي جحيفة رضي الله عنه، «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدّم وثمن الكلب، وكسب البغيّ، ولعن الواشمة والمستوشمة، وآكل الرّبا وموكله، ولعن المصوّرين»‏.‏ ولحديث أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه، قال‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغيّ، وحلوان الكاهن»‏.‏ وفرّق بعض المالكيّة بين الكلب المأذون باتّخاذه وبين غيره، فأجازوا بيع الأوّل، واختلفوا في الثّاني‏.‏

وأمّا الحنفيّة، فذهبوا إلى صحّة بيع الكلب أيّ كلب كان حتّى العقور‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏كلب‏)‏‏.‏ أمّا الهرّ فذهب جمهور الفقهاء إلى جواز بيعه، لأنّه حيوان منتفع به، وحملوا حديث جابر رضي الله عنه «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسّنّور» على غير المملوك، أو على ما لا نفع فيه من الهررة، وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏هرّ‏)‏‏.‏

بيع سباع البهائم وجوارح الطّير والهوامّ

14 - اتّفقت المذاهب على عدم جواز بيع سباع البهائم والطّير، إذا كانت ممّا لا ينتفع به بحال‏.‏ فإن كانت ممّا ينتفع به جاز بيعه إلاّ الخنزير، فإنّه نجس العين، فلا يجوز الانتفاع به، فكذلك لا يجوز بيعه‏.‏ لكنّهم ذهبوا مذاهب في تفسير النّفع الّذي يجيز بيع السّباع‏:‏

15 - فالحنفيّة - في ظاهر الرّواية من مذهبهم - والمالكيّة في الرّاجح من المذهب، ذهبوا إلى إطلاق النّفع، ولو بالجلد، وبدون تفرقة بين المعلّم وغيره‏.‏

ومن نصوص الحنفيّة في هذا‏:‏ صحّ بيع الكلب ولو عقوراً، والفهد والفيل والقرد، والسّباع بسائر أنواعها، حتّى الهرّة، وكذا الطّيور أي الجوارح منها‏)‏ علّمت أو لا، سوى الخنزير، وهو المختار، للانتفاع بها وبجلدها‏.‏

وعلّل الزّيلعيّ أيضاً جواز بيعها بجواز الانتفاع بها شرعاً، وبقبولها التّعليم عادةً، ثمّ طرح هذا الضّابط قائلاً فيه‏:‏ وكلّ منتفع به شرعاً، في الحال أو في المآل، وله قيمة‏.‏‏.‏ جاز بيعه، وإلاّ فلا‏.‏ وقال الحصكفيّ‏:‏ جواز البيع يدور مع حلّ الانتفاع‏.‏ وقال البابرتيّ‏:‏ وإذا ثبت أنّ مناط الحكم الانتفاع، ثبت في الفهد والنّمر والذّئب‏.‏ بخلاف الهوامّ المؤذية، كالحيّات والعقارب والزّنابير، لأنّها لا ينتفع بها‏.‏ وكذا غير المؤذية من هوامّ الأرض‏:‏ كالخنافس والفأرة والنّمل والوزغ والقنافذ والضّبّ، أو من البحر، كالضّفدع والسّرطان‏.‏

16 - أمّا مذهب المالكيّة فهو أنّ بيع الهرّ والسّبع للجلد جائز، وأمّا للّحم فقط، أو له وللجلد فمكروه‏.‏ وهذا مبنيّ على حكم لحم السّباع عندهم‏.‏

وأمّا سباع الطّير ذوات المخالب، فلحمها مباح عندهم، كالباز والعقاب والرّخم، وكرهوا الوطواط‏.‏ وأمّا سباع البهائم، فلهم فيها ثلاثة أقوال‏:‏ الكراهة‏.‏ والمنع‏.‏ والتّفرقة بين العادي - الّذي يعدو على الآدميّ - كالأسد والفهد والنّمر والذّئب، فيحرم‏.‏ وبين غير العادي، كالدّبّ والثّعلب والضّبع والهرّ مطلقاً، فيكره‏.‏ لكنّ الّذي في مختصر خليل كراهتها، حتّى الفيل عنده - وفي عهدته، كما قالوا‏.‏

17 - أمّا الشّافعيّة‏:‏ فقد فسّروا النّفع بنحو الصّيد والحراسة، ولو مآلاً، بأن يرجى تعلّم الحيوان‏.‏ أمّا ما لا نفع فيه فلا يصحّ بيعه، الفواسق الخمس، وكذا ما لا يرجى تعلّمه للصّيد، لكبره مثلاً‏.‏ فالفهد ينتفع به للصّيد، والفيل للقتال، والقرد للحراسة، والهرّة الأهليّة لدفع نحو فأر، والعندليب للأنس بصوته، والطّاووس للأنس بلونه‏.‏

وكتب الشّيخ عميرة على قول النّوويّ في منهاجه‏:‏ فلا يصحّ بيع الحشرات وكلّ سبع لا ينفع‏.‏ مبيّناً خصال انتفاء النّفع، بقوله‏:‏ مثل‏:‏ أن لا يؤكل، ولا يصال ولا يقاتل عليه، ولا يتعلّم، ولا يصلح للحمل‏.‏

كما قرّر أنّ انتفاء النّفع قد يكون حسّاً، وقد يكون شرعاً، وأنّ انتفاء النّفع ينفي الماليّة، فأخذ المال في مقابلته قريب - كما نقله عن الرّافعيّ - من أكل المال بالباطل‏.‏

18 - أمّا الحنابلة فقد ذهبوا - كما في رواية عن أبي يوسف من الحنفيّة اعتمدها السّرخسيّ إلى أنّه لا يصحّ بيع ما لا يصلح للاصطياد، ولا يقبل التّعليم بحال‏:‏

- أ - ومثّل الحنابلة لما لا يصلح للاصطياد بالأسد والذّئب والنّمر والدّبّ، وبالرّخم والحدأة والغراب الأبقع والنّسر والعقعق وغراب البين، وبيضها، لأنّه لا نفع فيه، فأخذ ثمنه أكل للمال بالباطل، ولأنّه ليس فيها نفع مباح كالحشرات، فأشبهت الخنزير‏.‏

فأمّا ما يصلح للاصطياد، كالفهد وكالصّقر والباز، بأن كانت معلّمةً أو قابلةً للتّعليم، فإنّ فيها نفعاً مباحاً، فيصحّ بيعها، وبيع أولادها وفراخها، وبيضها لاستفراخه، فينتفع به مآلاً‏.‏ ومع ذلك نصّوا على جواز بيع القرد، للحفظ لا للّعب، لأنّ الحفظ - كما قالوا - من المنافع المباحة

- ب - ومثّل الحنفيّة للمرويّ عن أبي يوسف، بالآتي‏:‏ مع التّفصيل تطبيقاً عليه‏:‏

- الأسد، إن كان يقبل التّعليم ويصطاد به، يجوز بيعه وإلاّ فلا‏.‏

- الفهد والبازي يقبلان التّعليم، فيجوز بيعهما على كلّ حال‏.‏

- النّمر - كما يقول الكمال - لا يقبل التّعليم لشراسته، فلا يجوز بيعه بحال، وكذا الكلب العقور على التّخصيص عند أبي يوسف‏.‏

- القرد، فيه روايتان عن أبي حنيفة‏:‏

الأولى‏:‏ جواز بيعه لإمكان الانتفاع بجلده، وهي رواية الحسن عنه، وصحّحها الزّيلعيّ‏.‏ والأخرى‏:‏ لا يجوز بيعه، لأنّه للتّلهّي، وهو محظور، فكان بيع الحرام للحرام، وأنّه لا يجوز‏.‏ وصحّح هذا الكاسانيّ، وبنى عليه ابن عابدين أنّه لولا قصد التّلهّي لجاز بيعه‏.‏ لكنّ قصد التّلهّي يقتضي الكراهة، لا عدم الصّحّة، كما قال الحصكفيّ‏.‏

بيع آلات اللّهو والمعازف

19 - ذهب جمهور الفقهاء، ومنهم الصّاحبان من الحنفيّة، والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إلى تحريم بيع آلات اللّهو المحرّمة، والمعازف إلاّ ما جاز استعماله منها، وصرّحوا بعدم صحّة بيعها‏.‏

والتّقييد بالمحرّمة، لإخراج بيع الشّطرنج، الّذي يقول الشّافعيّة بحلّه، وطبل الغزاة ونحوه، فمن المحرّمات‏:‏ الطّنبور، والمزمار، والشّبّابة ‏(‏وهي النّاية‏)‏ والعود، والصّنج والرّباب‏.‏ فالصّاحبان من الحنفيّة يريان أنّ هذه الآلات أعدّت للمعصية، فبطل تقوّمها، ولا ينعقد بيعها، كالخمر‏.‏ والمالكيّة قرّروا أنّ من شروط المعقود عليه‏:‏ أن يكون ممّا ينتفع به انتفاعاً شرعيّاً، وإن قلّ كالتّراب، وإن كانت المنفعة لا تجوز فهي كآلات اللّهو‏.‏

والشّافعيّة قرّروا أنّ آلة اللّهو المحرّمة لا يقصد منها غير المعصية، ولا نفع بها شرعاً‏.‏ والحنابلة قرّروا أنّ كسر هذه الآلات لا يستوجب الضّمان، وأنّها كالميتات‏.‏

وتحريم بيع المعازف مبنيّ على قول الجمهور بتحريم المعازف وآلات اللّهو‏.‏

وذهب بعض الفقهاء إلى إباحتها إذا لم يلابسها محرّم، فيكون بيعها عند هؤلاء مباحاً‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏معازف‏)‏‏.‏

ومذهب أبي حنيفة - خلافاً لصاحبيه - أنّه يصحّ بيع آلات اللّهو كلّها، وهو أيضاً قول ضعيف عند الشّافعيّة، مقيّد بأن يمكن اعتبار مكسّرها مالاً، ففيها نفع متوقّع عندئذ‏.‏

وفي الوقت الّذي يرى الصّاحبان أنّ آلات اللّهو معدّة للمعصية، موضوعة للفسق والفساد - كما هو تعبير الكاسانيّ - فلا تكون أموالاً فيبطل تقوّمها، كالخمر‏.‏ يرى أبو حنيفة أنّها أموال لصلاحيتها لما يحلّ من وجوه الانتفاع، بأن تجعل ظروفاً لأشياء، ونحو ذلك من المصالح، وإن صلحت لما لا يحلّ فصارت كالأمة المغنّية، وهذا لأنّ الفساد بفعل فاعل مختار، فلا يوجب سقوط التّقوّم‏.‏ وجواز البيع مرتّب على الماليّة والتّقوّم‏.‏

بيع الأصنام ونحوها

20 - الخلاف المارّ بين الجمهور وبين أبي حنيفة وبعض الشّافعيّة في بيع آلات اللّهو، جار هنا في بيع الأصنام‏.‏ ودليل الجمهور على التّحريم انتقاء المنفعة المباحة شرعاً، ونصّ حديث جابر مرفوعاً «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام»‏.‏

ودليل أبي حنيفة والقلّة من الشّافعيّة على الجواز‏:‏ الانتفاع بها بعد الكسر، فنفعها متوقّع، فوجدت الماليّة والتّقوّم في المال، وجواز البيع مرتّب عليهما‏.‏

وقد صرّح الرّافعيّ من الشّافعيّة بأنّ الوجهين يجريان في الأصنام والصّور، وكذا الشّوكانيّ وفيما يلي بعض ما يلحق بالأصنام مع بعض أحكامها‏:‏

نصّ الشّافعيّة على أنّه لا يصحّ بيع الصّور والصّلبان، وللحنفيّة قولان في الصّور للصّغار صحّةً وضماناً‏.‏ ونصّوا على صحّة بيع النّقد الّذي عليه صور، وعلّلوه بأنّها غير مقصودة منه بوجه ما‏.‏ وتردّدوا في الصّليب المتّخذ من الذّهب والفضّة، هل يلحق بالأصنام، أو بالنّقد الّذي عليه صور ‏؟‏

- أ - فرجّحوا إلحاقه بالصّنم إذا أريد به ما هو من شعارهم المخصوص بتعظيمهم‏.‏

- ب - ورجّحوا إلحاقه بالنّقد الّذي عليه صور إن أريد به ابتذاله بالاستعمال‏.‏

الشّرط الرّابع‏:‏ أن يلي البيعَ المالكُ أو من يقوم مقامه‏.‏

21 - نصّ الفقهاء على أنّ من شروط انعقاد البيع‏:‏ أن يكون المبيع مملوكاً للبائع أو موكّله أو مولّيه، وهذا إذا كان العاقد يبيع بالأصالة أو النّيابة‏.‏

أمّا إذا كان فضوليّاً بأن يصرّح أنّه يبيع ملك غيره دون إذن، فلا يكون شرط انعقاد عند من أجاز بيع الفضوليّ، وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏بيع الفضوليّ‏)‏‏.‏

ودليل هذا الشّرط ما روي «عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ يأتيني الرّجل يسألني البيع، ليس عندي ما أبيعه، ثمّ أبتاعه من السّوق، فقال‏:‏ لا تبع ما ليس عندك»‏.‏ قالوا‏:‏ المراد ما ليس في ملكك وقدرتك‏.‏

وقال البغويّ‏:‏ النّهي في هذا الحديث عن بيوع الأعيان الّتي لا يملكها‏.‏ وما روي أيضاً في الحديث‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخّص في السّلَم»‏.‏ ولأنّ البيع تمليك، فلا ينعقد فيما ليس بمملوك‏.‏

وبناءً عليه‏:‏ لا ينعقد بيع الكلأ في منابته، ولو كان في أرض مملوكة، لأنّه مباح بالنّصّ، وكذلك الماء في منابعه ما لم يحرز، وذلك لحديث‏:‏ «المسلمون شركاء في ثلاث‏:‏ في الماء والكلأ والنّار» وكذا الطّير في الهواء، والسّمك في الماء، كلّ ذلك لا ينعقد بيعه، لانعدام سبب الملك فيه، وهو الإحراز‏.‏

فإذا جُمِعَ الكلأ، وصيد الطّير والسّمك، وحمل الماء من الينابيع والأنهار العامّة ملك، وجاز بيعه‏.‏ وفي هذا يروى أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الماء إلاّ ما حمل منه»‏.‏ ونذكر هنا فروعاً فقهيّةً تطبيقيّةً لهذا الشّرط‏:‏

أ - بيع الفضوليّ‏:‏

22 - وهو من ليس بوكيل ولا وليّ عن المالك، وكذا سائر عقوده‏:‏

- فمذهب الحنابلة، والشّافعيّ في الجديد‏:‏ أنّه باطل، وإن أجازه المالك بعد ذلك‏.‏ للحديث المذكور سابقاً «لا تبع ما ليس عندك» ولأنّه تمليك ما لا يملك، وبيع ما لا يقدر على تسليمه، فأشبه بيع الطّير في الهواء‏.‏

- ومذهب الحنفيّة والمالكيّة، والشّافعيّ في القديم، وروي عن أحمد أيضاً‏:‏ أنّ هذا العقد صحيح موقوف على إجارة المالك، فإن أجازه نفذ ولزم البيع، وإن لم يجزه وردّه بطل‏.‏ وذلك لإطلاقات النّصوص في حلّ البيع، من غير تفصيل بين الأصيل والوكيل، ابتداءً أو بقاءً وانتهاءً‏.‏ ولحديث «عروة بن الجعد البارقيّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به شاةً، فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار، ثمّ عاد بالدّينار والشّاة، فدعا له بالبركة في بيعه»، وفي رواية أنّه قال له‏:‏ «بارك اللّه في صفقة يمينك»‏.‏ وتفصيل الكلام عن بيع الفضوليّ ينظر في مصطلحه‏.‏

وبناءً على هذا الشّرط صرّح الفقهاء ببطلان بيع ما يلي‏:‏

- 1 - بيع الوقف‏:‏ وقد صرّحوا ببطلانه، حتّى الحنفيّة، وقالوا‏:‏ إنّه باطل لا فاسد، فلا يملك بالقبض ‏(‏ر مصطلح‏:‏ وقف‏)‏

- 2 - بيع أراضي بيت المال‏:‏ فقد قرّر بعض الفقهاء أنّها تجري على رقبتها أحكام الوقوف المؤبّدة ‏(‏ر مصطلح‏:‏ أرض‏)‏ وأراضي الجزي ‏(‏ر مصطلح‏:‏ جزية‏)‏‏.‏

- 3 - بيع المساجد، ورباع مكّة، والحرم، وبقاع المناسك على خلاف وتفصيل في بعض ذلك‏.‏ ر مصطلحات‏:‏ ‏(‏مسجد، حرم، مكّة‏)‏‏.‏

- 4 - المعادن الجارية والجامدة، في الأراضي المملوكة والمحيّاة‏.‏ وخلاف الفقهاء معروف في جواز بيعها‏.‏ ر مصطلح‏:‏ ‏(‏أرض، معدن، إحياء‏)‏‏.‏

ب - ضربة الغائص‏:‏

23 - الغائص‏:‏ من يغوص لاستخراج اللّآلئ من البحر، يقول‏:‏ أغوص غوصةً، فما أخرجته من اللّآلئ فهو لك بكذا‏.‏

ومثله القانص، وهو الصّائد، يقول‏:‏ بعتك ما يخرج من إلقاء هذه الشّبكة مرّةً، بكذا‏.‏

وقد جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال‏:‏ «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتّى تضع، وعن بيع ما في ضروعها إلاّ بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتّى تقسم، وعن شراء الصّدقات حتّى تقبض، وعن ضربة الغائص»‏.‏ ولا يختلف الفقهاء في فساد هذا البيع، لأنّه بيع معدوم، وبيع ما لم يملك، وبيع مجهول، وبيع غرر‏.‏ وصرّح الحنفيّة ببطلانه‏.‏ ونصّ ابن الهمام على أنّه بيع باطل، لعدم ملك البائع المبيع قبل العقد، فكان غرراً، ولجهالة ما يخرج‏.‏

وكذلك الحصكفيّ من الحنفيّة، وعلّل البطلان بأنّه بيع ما ليس في ملكه‏.‏

ج - بيع الصّدقة والهبة قبل القبض‏:‏

24 - جمهور الفقهاء يشترطون القبض في التّبرّعات، كالصّدقة ونحوها، فما لم تقبض لا تلزم ولا تفيد الملك، فلا يجوز بيعها قبل قبضها، كما نصّ عليه حديث «النّهي عن شراء الصّدقات حتّى تقبض» وذلك لعدم الملك‏.‏ وهذا خلافاً للمشهور في مذهب مالك وآخرين، والمرويّ عن أحمد في غير المكيلات والموزونات، من اللّزوم قبل القبض، وإنّما القبض شرط تمام - كما يقول المالكيّة - لا شرط صحّة، والانعقاد واللّزوم بالقول‏.‏ ولذلك يجوز بيعها قبل قبضها لثبوت الملك فيها، خلافاً لما ملك بالمعاوضة ولم يقبض فلا يجوز بيعه، كما سيأتي عند الكلام عن بيع ما لم يقبض‏.‏

د - بيع الغنيمة قبل القسم‏:‏

25 - ممّا يتّصل ببيع ما لم يملك، مسألة بيع المجاهد نصيبه من الغنيمة، قبل أن يقسمه له الإمام‏.‏ وقد ورد النّصّ بها في خصوصها في حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال‏:‏ «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام‏.‏‏.‏ وعن شراء المغانم حتّى تقسم» الحديث‏.‏

وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال‏:‏ «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الغنائم حتّى تقسم»‏.‏ ويرى الفقهاء إباحة أخذ الأطعمة ونحوها من الأقوات من الغنائم قبل قسمتها للحاجة بوجه عامّ، ولم يبيحوا تملّكها، ولا تموّلها - كما عبّر الحصكفيّ من الحنفيّة - فدلّ هذا على منع البيع، ولذلك بحثوا حكم بيعها عند الكلام عن الانتفاع بها‏.‏ 26 - فنصّ الحنفيّة على أنّه لا يجوز بيع شيء من المذكورات قبل القسمة أصلاً، ولو كان لحاجة، وذلك لعدم الملك، لأنّ الغنائم لا تملك قبل القسمة، وإنّما أبيح الانتفاع للحاجة، والمباح لا يملك بالبيع، وهذا نصّ المرغينانيّ في بدايته‏:‏ ولا يجوز بيع الغنائم قبل القسمة في دار الحرب‏.‏

فلو باع شيئاً من المذكورات المباحة له، كان بيعه فضوليّاً عندهم، فإن أجازه الإمام ردّ ثمنه إلى المغانم، فإن كانت المغانم قد قسمت تصدّق بالثّمن إن كان غير فقير، لأنّه لقلّته لا يمكن قسمته، فتعذّر إيصاله إلى مستحقّه، فيتصدّق به كاللّقطة‏.‏ وإن كان فقيراً أكله‏.‏

27 - والمالكيّة قالوا‏:‏ يجوز - مع - الكراهة - مبادلة الطّعام بمثله أو غيره، ولو بتفاضل أو تأخير في الطّعام الرّبويّ المتّحد الجنس‏.‏

28 - والشّافعيّة خالفوا في ذلك، وقرّروا أنّه ليس له الطّعام إلى حاجة أخرى، بدلاً عن طعامه، وأنّه لا يجوز له إلاّ أكلة فقط، لأنّه على سبيل الإباحة لا التّمليك‏.‏

وهذا كالنّصّ على عدم جواز البيع‏.‏

هذا ما قاله الشّافعيّة في بحث الغنائم، لكن في بحث حكم بيع المبيع قبل قبضه، قرّروا خلافه‏.‏ ولما قرّر النّوويّ في منهاجه أنّ الشّخص له بيع ما له في يد غيره أمانةً، كوديعة ومشترك وقراض، ومرهون بعد انفكاكه، علّق القليوبيّ على قولة‏:‏ ‏"‏ كوديعة ‏"‏ بما نصّه‏:‏ ومثلة غلّة وقف وغنيمة، فلأحد المستحقّين أو الغانمين، بيع حصّته قبل إفرازها‏.‏ قاله شيخنا‏.‏ بخلاف حصّته من بيت المال، فلا يصحّ بيعها قبل إفرازها ورؤيتها، واكتفى بعض مشايخنا بالإفراز فقط، ولو مع غيره‏.‏

فكلام القليوبيّ هنا، نقلاً عن شيخه، يخالف ما تقدّم، من أنّ له الأخذ على سبيل الإباحة لا التّمليك‏.‏ فيبدو أنّ هذا بناءً على أحد أقوال ثلاثة عند الشّافعيّة في ملك الغنيمة قبل القسمة‏:‏ أوّلها‏:‏ أنّها لا تملك إلاّ بالقسمة، لكن لا بمجرّدها، بل إن قبل ما أحرز له أو رضي به، لأنّ المعتبر هو اختيار التّملّك، ولا بدّ من اللّفظ بأن يقول‏:‏ اخترت ملك نصيبي‏.‏

وهذا هو القول المعتمد عندهم‏.‏

الثّاني‏:‏ وقيل يملكون قبل القسمة بالاستيلاء ملكاً ضعيفاً يسقط بالإعراض، ووجّه هذا الشّيخ عميرة البرلّسيّ‏:‏ بأنّ ملك الكفّار قد زال، وبعيد بقاؤه بلا مالك‏.‏

الثّالث‏:‏ إن سلمت الغنيمة إلى القسمة، بانَ ‏(‏أي ظهر ملكهم‏)‏ بالاستيلاء، وإلاّ بأن تلفت أو أعرضوا فلا ملك لهم‏.‏

فيبدو أنّ صحّة البيع عند شيخ القليوبيّ قبل القسمة، بناءً على غير المعتمد عندهم‏.‏

29 - أمّا الحنابلة فقد نصّ الخرقيّ منهم على أنّ من تعلف فضلاً عمّا يحتاج إليه، ردّه على المسلمين، فإن باعه ردّ ثمنه في المقسم‏.‏

وعلّلوا وجوب ردّ من فضل معه طعام كثير من الغنائم وأدخله البلد، إلى مقسّم تلك الغزوة بأنّه‏:‏ أخذ ما لا يحتاج إليه، فيلزمه ردّه، لأنّ الأصل تحريمه، لكونه مشتركاً بين الغانمين، كسائر المال، وإنّما أبيح منه ما دعت الحاجة إليه، فما زاد يبقى على أصل التّحريم، ولهذا لم يبح بيعه‏.‏

ورووا في ذلك هذا الأثر، وهو‏:‏‏"‏ أنّ صاحب جيش الشّام كتب إلى عمر رضي الله عنه‏:‏ إنّا أصبنا أرضاً كثيرة الطّعام والعلف، وكرهت أن أتقدّم في شيء‏.‏ فكتب إليه‏:‏ دع النّاس يعلفون ويأكلون، فمن باع منهم شيئاً بذهب أو فضّة، ففيه خمس للّه وسهام المسلمين‏"‏ وفصّل القاضي من أئمّتهم تفصيلاً دقيقاً، في هذه المسألة، وقد ارتضوه، فقال‏:‏ لا يخلو إمّا أن يبيعه من غاز أو غيره‏.‏

- فإن باعه لغيره، فالبيع باطل، لأنّه يبيع مال الغنيمة بغير ولاية ولا نيابة، فيجب ردّ المبيع، ونقض البيع‏.‏ فإن تعذّر ردّه، ردّ قيمته أو ثمنه، إن كان أكثر من قيمته إلى المغنم‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ وعلى هذا الوجه حمل كلام الخرقيّ

- وإن باعه لغاز لم يحلّ، إلاّ أن يبدّله بطعام أو علف، ممّا له الانتفاع به أو بغيره على النّحو التّالي‏:‏

- فإن باعه بمثله، فليس هذا بيعاً في الحقيقة، إنّما سلّم إليه مباحاً وأخذ مثله مباحاً، ولكلّ واحد منهما الانتفاع بما أخذ، وصار أحقّ به، لثبوت يده عليه‏.‏ فعلى هذا لو باع صاعاً بصاعين، وافترقا قبل القبض جاز، لأنّه ليس ببيع‏.‏ وإن باعه نسيئةً، أو أقرضه إيّاه فأخذه، فهو أحقّ به، ولا يلزمه إيفاؤه، فإن وفّاه أو ردّه إليه، عادت اليد إليه‏.‏

- وإن باعه بغير الطّعام والعلف، فالبيع أيضاً غير صحيح، ويصير المشتري أحقّ به، لثبوت يده عليه، ولا ثمن عليه‏.‏ وإن أخذ منه وجب ردّه إليه‏.‏

30 - ومن هذا يتّضح أنّ الاتّجاه العامّ في الفقه - بغضّ النّظر عمّا روي من قول للشّافعيّة، وعن حال مبادلة الطّعام بالمثل وغيره عند المالكيّة والحنابلة - هو عدم جواز بيع المغانم قبل القسمة، كما هو نصّ الحديث الشّريف، الّذي نهى عن شراء المغانم حتّى تقسم‏.‏

وفي هذا يقول الشّوكانيّ‏:‏ مقتضى النّهي عدم صحّة بيعها قبل القسمة، لأنّه لا ملك - على ما هو الأظهر من قول الشّافعيّ وغيره - لأحد من الغانمين قبلها، فيكون ذلك من أكل أموال النّاس بالباطل‏.‏

31 - هذا حكم بيع الغزاة الغانمين أنصبتهم وما يأخذونه من الغنائم، قبل القسمة‏.‏

أمّا حكم بيع الإمام الغنائم قبل القسمة، فقد عرض له الحنفيّة فذكر الطّحاويّ أنّه يصحّ‏.‏ لأنّه مجتهد فيه، يعني أنّه لا بدّ أن يكون الإمام رأى المصلحة في ذلك، وأقلّها تخفيف إكراه الحمل على النّاس، أو عن البهائم ونحوه، وتخفيف مؤنته عنهم، فيقع عن اجتهاد في المصلحة، فلا يقع جزافاً، فينعقد بلا كراهة مطلقاً‏.‏

كما عرض له المالكيّة أيضاً، ولهم فيه قولان‏:‏

الأوّل‏:‏ وجوب بيع الإمام الأربعة الأخماس من الغنائم، ليقسمها بين المجاهدين، لأنّ قسمة الأثمان أقرب إلى المساواة، لما يدخل التّقويم من الخطأ‏.‏

الآخر‏:‏ عدم الوجوب، بل الإمام مخيّر، فإن شاء باع وقسم الثّمن، وإن شاء قسم الأعيان بحسب ما يراه من المصلحة‏.‏

الشّرط الخامس‏:‏ أن يكون المبيع مقدور التّسليم‏.‏

32 - نصّ الفقهاء على أنّ من شروط المبيع كونه مقدور التّسليم بعد اشتراط كونه مملوكاً‏.‏ فقد يملك الإنسان مالاً، ولا يقدر على تسليمه كالجمل الّذي شرد من صاحبه، فلا يصحّ بيعه في هذه الحال، لأنّ ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم، والمعدوم لا يصحّ بيعه - كما تقدّم - فكذا ما أشبهه‏.‏

وممّا يمثّل بيع غير مقدور التّسليم‏:‏ السّمك إذا وقع في البحر بعد امتلاكه، والطّير المملوك إذا طار في الهواء، والصّيد إذا انفلت بعد صيده، ومنه بيع العبد الآبق والشّيء المغصوب‏.‏ والآبق‏:‏ من ترك سيّده من غير خوف ولا كدّ عمل‏.‏ ولهذا قيل‏:‏ إن كان هروبه من خوف أو تعب، يقال له‏:‏ هارب‏.‏

33 - والفقهاء متّفقون على فساد هذا العقد وإن تردّد الحنفيّة في الفساد والبطلان مع ما يترتّب على ذلك‏:‏ من أنّ ارتفاع المفسد يردّ العقد صحيحاً، لقيام العقد مع الفساد، بخلاف ارتفاع المبطل، لأنّ العقد معدوم معه وإن رجّح الكمال منهم الفساد، لانعدام القدرة فيه على التّسليم‏.‏ وعلّلوا فساد هذا العقد‏:‏ - بالنّهي عنه في حديث أبي سعيد المتقدّم «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام‏.‏‏.‏‏.‏ وعن شراء العبد وهو آبق»‏.‏

- ولأنّه لا يقدر على تسليمه، وهو شرط جوازه‏.‏

34 - ومع ذلك، لو حصل بيع العبد وهو آبق، ففيه هذه الصّور التّفصيليّة المذهبيّة‏:‏ الأولى‏:‏ أن يبيعه المالك ممّن هو في يده‏.‏ وهذه الصّورة جائزة عند الجمهور،، بل قطعاً كما يعبّر الشّافعيّة وهو مقتضى نصّ ابن قدامة وغيره من أنّه‏:‏ إن حصل في يد إنسان جاز بيعه، لإمكان تسليمه، لكنّ المصرّح به في المذهب الحنبليّ أنّه لا يجوز بيعه ولو لقادر على تحصيله‏.‏ غير أنّ الحنفيّة فصّلوا في صيرورة الّذي هو في يده قابضاً بعد البيع‏:‏

أ - فإن كان قبض الآبق حين وجده لنفسه، لا ليردّه على سيّده، ولم يشهد على قبضه لسيّده، فإنّه يصير قابضاً، لأنّ قبضه هذا قبض غصب، وهو قبض ضمان،كقبض المبيع‏.‏

ب - وإن أشهد على قبضه عندما وجده لا يصير قابضاً، لأنّ قبضه هو قبض أمانة، حتّى لو هلك قبل أن يصل إلى سيّده لا يضمنه، فلا ينوب عن قبض الضّمان، وهو قبض المبيع، لأنّه أقوى، ولأنّه مضمون بالثّمن، ولهذا لو هلك قبل أن يرجع إلى مالكه، انفسخ البيع ورجع بالثّمن‏.‏

الثّانية‏:‏ أن يبيعه المالك ممّن هو في يد غيره‏.‏ وهذه الصّورة جائزة عند الجمهور، بشرط القدرة على الانتزاع والتّحصيل - لكن بسهولة كما هو نصّ المالكيّة - وهو الصّحيح من مذهب الشّافعيّة، والقول الثّاني المصوّب عند الحنابلة، ومقتضى نصّ ابن قدامة وغيره‏.‏ لكنّ الحنفيّة نصّوا على فساد هذه الصّورة، وهذا هو الوجه الآخر عند الشّافعيّة، وهو المذهب عند الحنابلة‏.‏ وعلّله الشّافعيّة بعجز البائع عن التّسليم‏.‏

الثّالثة‏:‏ أن يبيعه المالك ممّن يقدر على ردّه، وليس هو في يد أحد‏.‏

وهذه الصّورة جائزة عند الجمهور، وفي القول الثّاني عند الحنابلة‏.‏

لكنّ القليوبيّ من الشّافعيّة، قيّدها بأن يكون المشري قادراً على ردّه بلا مشقّة لا تحتمل عادةً، وبلا مؤنة لها وقع‏.‏ والمذهب عند الحنابلة عدم جوازها‏.‏

الرّابعة‏:‏ أن يبيعه ممّن لا يقدر على تحصيله‏.‏ والإجماع على عدم جوازها، وهي محمل الحديث‏.‏

35 - ويتّصل ببيع الآبق، بيع المغصوب‏:‏

أ - فإن باعه من غاصبه، جاز بالاتّفاق، وعبّر الشّافعيّة بالجواز هنا لأنّ المبيع مسلّم بالفعل إلى المشتري، ‏(‏وقبضه بعد البيع، كقبضه قبله، في المضمونيّة‏)‏‏.‏‏.‏ وقيّده - مع ذلك - المالكيّة بشرط أن يعلم أنّ الغاصب عزم على ردّه لربّه‏.‏

ب - وإن باعه من قادر على انتزاعه أو ردّه صحّ عند الجمهور، وهو القول الصّحيح عند الشّافعيّة‏.‏ لكنّهم قيّدوه بتيسّر وصوله إلى المشتري بلا مؤنة ولا مشقّة ملحوظة عليه، فإن احتاج الرّدّ إلى مؤنة انتفى المنع‏.‏ كما قيّده المالكيّة بكون الغاصب مقرّاً مقدوراً عليه، وإلاّ لا‏.‏ لأنّ المشهور عندهم منع شراء ما فيه خصومة‏.‏

والمقرّر أنّه لا يجوز بيع المغصوب عندهم إلاّ من غاصب، كالحنابلة‏.‏

وفي قول للشّافعيّة‏:‏ أنّه لا يصحّ، لعجز البائع بنفسه عن التّسليم‏.‏ وهو رواية عن الإمام أحمد‏.‏ وصرّح الحنفيّة بأنّ بيع المغصوب من غير الغاصب ينعقد موقوفاً على التّسليم، فلو سلّم نفذ، وإلاّ لا‏.‏ وفرّقوا بين بيع الآبق - فإنّه فاسد بل غير منعقد - وبين بيع المغصوب - فإنّه صحيح - بأنّ المالك في بيع المغصوب قادر على التّسليم بقدرة الحاكم، إلاّ أنّه موقوف لم ينفذ للحال لقيام يد الغاصب صورةً، فإذا سلّم زال المانع فينفذ‏.‏

وهذا بخلاف الآبق، لأنّه - كما قال الكاسانيّ -‏:‏ معجوز التّسليم على الإطلاق إذ لا تصل إليه يد أحد، لما أنّه لا يعرف مكانه، فكان العجز متقرّراً، والقدرة محتملةً موهومةً، فلا ينعقد مع الاحتمال، فأشبه بيع الآبق بيع الطّير الّذي لم يوجد وبيع السّمك الّذي لم يوجد، وذلك باطل، كذا هذا‏.‏

الأسباب الّتي تتعلّق بلازم العقد

وهي‏:‏ الرّبا، وما هو ذريعة إليه، والغرر‏.‏

وفيما يلي أسباب النّهي المتعلّقة بالرّبا‏.‏

36 - الرّبا في اللّغة‏:‏ الزّيادة‏.‏ وفي الاصطلاح الفقهيّ‏:‏ عرّفه الحنفيّة بأنّه‏:‏ فضل - ولو حكماً - خال عن عوض بمعيار شرعيّ، مشروط لأحد المتعاقدين، في المعاوضة‏.‏

وقَيْدُ الحكميّة، لإدخال ربا النّسيئة وأكثر البيوع الفاسدة، لأنّ الرّبا نوعان‏:‏ ربا الفضل، وربا النّسيئة‏.‏

والرّبا محرّم بالكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ أجمعت الأمّة على أنّ الرّبا محرّم بنوعيه‏:‏ الفضل والنّسيئة، ويجري ربا الفضل وربا النّسيئة في بعض مسائل الصّرف وتفصيله في ‏(‏الصّرف‏)‏‏.‏

والرّبا من الكبائر، ولم يحلّ في شريعة قطّ لقوله تعالى ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وذَرُوا ما بَقِيَ من الرّبا إن كنتم مؤمنين، فإنْ لم تَفْعَلوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ منَ اللّه ورسولِه، وإنْ تُبْتُم فلكم رؤوسُ أموالِكم لا تَظْلمون ولا تُظْلمون‏}‏ وفي الحديث «لعن اللّه آكلَ الرّبا وموكِلَه وكاتِبَه وشاهديه»‏.‏ وقال‏:‏ «هم سواء» وليس القصد هنا ذكر أحكام الرّبا وشروطه ومسائله، بل ينظر تفصيل ذلك تحت عنوان ‏(‏رباً‏)‏‏.‏

والقصد هنا التّعرّف على أحكام بعض البيوع الرّبويّة، وهي الّتي ورد النّهي عنها في السّنّة، ومن هذه البيوع ما يلي‏:‏

أ - بيع العينة‏:‏

37 - هو‏:‏ بيع العين بثمن زائد نسيئةً ليبيعها المستقرض بثمن حاضر أقلّ ليقضي دينه، كما عرّفه الحنفيّة وهناك تعريفات وصور أخرى اختلف الفقهاء فيها وفي حكمها‏.‏

وينظر تفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏بيع العينة‏)‏‏.‏

ب - بيع المزابنة‏:‏

38 - المزابنة‏:‏ بيع التمر على النخيل بتمر مجذوذ مثل كيله خرصاً ‏(‏أي ظناً وتقديراً‏)‏ وذلك بأن يقدر الرطب الذي على النخيل بمقدار مائة صاع مثلاً بطريق الظن والحرز، فيبيعه بقدره من التمر‏.‏

واتفق الفقهاء على فساد هذا النوع من البيع‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏بيع المزابنة‏)‏‏.‏

ت - بيع المحاقلة‏:‏

39 - المحاقلة‏:‏ بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصاً‏.‏

واتّفق الفقهاء على عدم جواز المحاقلة، لحديث جابر رضي الله عنه قال‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة»‏.‏ وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ بيع المحاقلة‏)‏‏.‏

ث - بيع العرايا‏:‏

40 - هو‏:‏ بيع الرّطب على النّخل بتمر في الأرض، أو العنب في الشّجر بزبيب‏.‏

واختلف الفقهاء في جواز العرايا‏.‏ وينظر تفصيله في مصطلح ‏(‏بيع العرايا‏)‏‏.‏

ج - بيع العربون‏:‏

41 - بيع العربون هو‏:‏ أن يشتري السّلعة ويدفع إلى البائع درهماً أو أكثر على أنّه إن أخذ السّلعة احتسب به من الثّمن، وإن لم يأخذها فهو للبائع‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في جوازه، فذهب الجمهور إلى أنّه لا يصحّ، وذهب الحنابلة إلى جوازه على تفصيل ينظر في ‏(‏بيع العربون‏)‏‏.‏

ح - النّهي عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان‏:‏

42 - ورد فيه حديث جابر رضي الله عنه قال‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطّعام، حتّى يجري فيه الصّاعان‏:‏ صاع البائع، وصاع المشتري»‏.‏

وفي معناه ورد أيضاً حديث عثمان رضي الله عنه‏.‏ «قال‏:‏ كنت أبتاع التّمر من بطن من اليهود يقال لهم‏:‏ بنو قينقاع، وأبيعه بربح، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا عثمان إذا اشتريت فاكْتَل، وإذا بعت فَكِلْ»‏.‏

كما ورد أيضاً حديث يحيى بن أبي كثير «أنّ عثمان بن عفّان، وحكيم بن حزام رضي الله عنهما‏.‏ كانا يبتاعان التّمر، ويجعلانه في غرائر، ثمّ يبيعانه بذلك الكيل، فنهاهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يبيعاه حتّى يكيلا لمن ابتاعه منهما»‏.‏

وهذه الأحاديث تدلّ على أنّ من اشترى شيئاً مكايلةً، وقبضه ثمّ باعه إلى غيره، لم يجز تسليمه بالكيل الأوّل، حتّى يكيله على من اشتراه ثانياً، وإليه ذهب الجمهور، كما حكاه ابن حجر في فتح الباري‏.‏

ونصّ ابن الهمام على أنّ هذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد رضي الله عنهم‏.‏ وقد اشترط الفقهاء القبض قبل بيع المبيع في الجملة‏.‏ فهذا من تمام القبض - كما يعبّر الحنفيّة - أو هو شرط في ‏(‏صحّة‏)‏ قبض المنقول مع نقله‏.‏ كما يقول الشّافعيّة‏.‏

لكن قام الإجماع على عدم اعتبار الكيل فيما بيع جزافاً‏.‏

واستثناء الجزاف من الشّرط كان أخذاً من معنى النّصّ، أو من دليل آخر‏.‏

43 - ونذكر هنا بعض الأمثلة التّطبيقيّة الفقهيّة عند الشّافعيّة والحنابلة، لتقاربهما فيها‏.‏

المثال الأوّل‏:‏

لو كان لبكر طعام مقدّر على زيد، كعشرة آصع، ولعمرو على بكر مثله، فليطلب بكر من زيد أن يكيله له، حتّى يدخل في ملكه، ثمّ يكيل بكر لعمرو، ليكون القبض والإقباض صحيحين، لأنّ الإقباض هنا متعدّد، ومن شرط صحّته الكيل، فلزم تعدّده، لأنّ الكيلين، قد يقع بينهما تفاوت‏.‏ فلو قال بكر لعمرو‏:‏ اقبض يا عمرو من زيد عنّي مالي عليه لنفسك، ففعل عمرو، فالقبض بالنّسبة إلى زيد صحيح عند الشّافعيّة، وفي إحدى روايتين عند الحنابلة، وتبرأ ذمّته لوجود الإذن، وهو إذن الدّائن، وهو بكر في القبض منه له بطريق الاستلزام، فأشبه قبضه قبض وكيله‏.‏

لكنّ هذا القبض فاسد بالنّسبة إلى عمرو، لكونه قابضاً من نفسه لنفسه، لأنّ قبضه مشروط بتقدّم قبض بكر ولم يوجد، ولا يمكن حصولهما، لما فيه من اتّحاد القابض والمقبض، وما قبضه عمرو مضمون عليه، لأنّه قبضه لنفسه، فحينئذ يكيله المقبوض له، وهو بكر، للقابض، وهو عمرو، ويصحّ قبضه له‏.‏ والرّواية الأخرى عند الحنابلة هي‏:‏ أنّ هذا القبض غير صحيح، لأنّه لم يجعله نائباً له في القبض، فلم يقع له، بخلاف الوكيل‏.‏

وعلى هذه الرّواية يكون المقبوض باقياً على ملك المسلّم إليه، وهو زيد، لعدم القبض الصّحيح‏.‏ بخلافه على الرّواية السّابقة، فإنّه يكون المقبوض ملكاً لبكر‏.‏ ويبدو أنّ هذه الرّواية الأخيرة هي الرّاجحة، فعليها متن الإقناع‏.‏ ولو قال‏:‏ اقبضه لي، ثمّ اقبضه لنفسك، صحّ القبض لكلّ منهما، لأنّه استنابه في قبضه له، وإذا قبضه لموكّله جاز أن يقبضه لنفسه، كما لو كان له وديعة عند من له عليه دين، وأذنه في قبضها عن دينه‏.‏

هذا، وإن يكن المثال المذكور، وهو المثال الأوّل، في السّلم، لكنّ التّقييد به، لأنّه الّذي في كلام الأصحاب من الشّافعيّة، ومثل السّلم - كما قالوا - دين القرض والإتلاف‏.‏

المثال الثّاني‏:‏

44 - لو قال بكر لعمرو‏:‏ احضر اكتيالي من زيد لأقبضه لك، ففعل، لم يصحّ قبضه لعمرو، لعدم كيله، ويكون بكر قابضاً لنفسه لاكتياله إيّاه‏.‏

المثال الثّالث‏:‏

45 - لو قال بكر لعمرو، خذه بهذا الكيل الّذي قد شاهدته، فأخذه به صحّ، لأنّه شاهد كيله وعلمه، فلا معنى لاعتبار كيله مرّةً ثانيةً‏.‏ وفي رواية عن أحمد أنّه لا يجزئ، وذلك للحديث المتقدّم «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطّعام، حتّى يجري فيه الصّاعان‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏» وهذا داخل فيه‏.‏ ولأنّه قبضه من غير كيل، فأشبه ما لو قبضه جزافاً‏.‏

المثال الرّابع‏:‏

46 - لو قال بكر لعمرو‏:‏ احضرنا حتّى أكتاله لنفسي، ثمّ تكتاله أنت، وفعلا، صحّ بغير إشكال‏.‏ ولو اكتال بكر لنفسه، ثمّ أخذه عمرو بذلك الكيل الّذي شاهده، فعلى روايتين‏.‏

ولو تركه في المكيال، ودفعه إلى عمرو، ليفرّغه لنفسه صحّ، وكان ذلك قبضاً صحيحاً، لأنّ استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه، ولا معنى لابتداء الكيل هاهنا، إذ لا يحصل به زيادة علم‏.‏ ومع أنّ ابن قدامة أسند إلى الشّافعيّة عدم صحّة القبض، للنّهي عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان، وقرّر أنّه يمكن القول بموجب الحديث، وأنّه يعتبر قبض المشتري له في المكيال إجراءً لصاعه فيه، إلاّ أنّ ابن حجر نصّ على أنّ الاستدامة في نحو المكيال كالتّجديد، فتكفي‏.‏

المثال الخامس‏:‏

47 - لو دفع بكر إلى عمرو دراهم، فقال‏:‏ اشتر لك بها مثل الطّعام الّذي لك عليّ، ففعل، لم يصحّ، لأنّه فضوليّ إذ اشترى لنفسه بمال غيره،لأنّ دراهم بكر لا يكون عوضها لعمرو‏.‏ والشّافعيّة يعلّلون بأنّه‏:‏ لا يمكن أن يشتري بمال غيره لنفسه، والدّراهم أمانة في يده، فإن اشترى بعينها بطل الشّراء، وإن اشترى بثمن في ذمّته، صحّ الشّراء له، والثّمن عليه‏.‏ وإن قال‏:‏ اشتر لي بها طعاماً، ثمّ اقبضه لنفسك ففعل، صحّ الشّراء، ولم يصحّ القبض لنفسه‏.‏ وعلّله الشّافعيّة بأنّ حقّ الإنسان لا يتمكّن غيره من قبضه لنفسه، وضمنه الغريم القابض لاستيلائه عليه لنفسه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إنّ قبضه لنفسه فرع عن قبض موكّله، ولم يوجد‏.‏

وإن قال‏:‏ اشتر لي بها طعاماً ‏(‏واقبضه لي‏)‏ ثمّ اقبضه لنفسك، ففعل، جاز، لأنّه وكّله بالشّراء والقبض، ثمّ الاستيفاء من نفسه لنفسه، وذلك صحيح‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ صحّ الشّراء والقبض الأوّل دون الثّاني، لاتّحاد القابض والمقبض، دون الأوّل‏.‏ لكنّ الحنابلة قاسوه على مسألة شراء الوالد لنفسه من مال ولده الصّغير، وهبته له، وقبضه لنفسه من نفسه‏.‏ والشّافعيّة يمنعون القياس في هذه الصّورة، وليس لواحد تولّي الطّرفين عندهم، ولو بوكالة عنهما‏.‏ كما يمنعه المالكيّة أيضاً، لأنّه يصير قابضاً من نفسه لنفسه، وليس هو ممّن يتولّى طرفي العقد، فقبضه كلا قبض‏.‏

المثال السّادس‏:‏

48 - اشترى اثنان طعاماً، فقبضاه، ثمّ باع أحدهما نصيبه من الآخر قبل أن يقتسماه‏:‏

أ - فيحتمل أن لا يجوز ذلك، لأنّه لم يقبض نصيبه منفرداً، فأشبه غير المقبوض‏.‏

ب - ويحتمل الجواز، لأنّه مقبوض لهما، يجوز بيعه لأجنبيّ، فجاز بيعه لشريكه، كسائر الأموال‏.‏ ولو تقاسماه وافترقا، ثمّ باع أحدهما نصيبه بذلك الكيل الّذي كاله، لم يجز، كما لو اشترى من رجل طعاماً، فاكتاله وتفرّقا، ثمّ باعه إيّاه بذلك الكيل‏.‏ أمّا لو تقاسماه ولم يفترقا، وباع أحدهما نصيبه بذلك الكيل، ففيه روايتان‏.‏ كما تقدّم في المثال الرّابع‏.‏

49 - وقد تناول الحنفيّة هذه المسألة تناولاً خاصّاً، بالنّصّ والتّفصيل والتّعليل‏.‏ فقال المرغينانيّ منهم‏:‏ من اشترى مكيلاً مكايلةً ‏(‏أي بشرط الكيل‏)‏ أو موزوناً موازنةً ‏(‏أي بشرط الوزن‏)‏ فاكتاله أو اتّزنه، ثمّ باعه مكايلةً أو موازنةً، لم يجز للمشتري منه أن يبيعه، ولا أن يأكله، حتّى يعيد الكيل والوزن وذلك لحديثي جابر وعثمان رضي الله عنهما المذكورين سابقاً‏.‏ ولأنّه يحتمل أن يزيد على المشروط، وذلك للبائع في المقدّرات، والتّصرّف في مال الآخرين حرام، فيجب التّحرّز عنه‏.‏

ولأنّ الكيل والوزن والعدّ من تمام القبض، فأصل القبض شرط لجواز التّصرّف فيه على ما سبق، فكذا تمامه‏.‏

وقد قيّد الحكم المذكور بالشّراء، لأنّه لو ملكه بهبة أو إرث أو وصيّة، جاز التّصرّف فيه قبل الكيل‏.‏ كما أنّ البيع عند الإطلاق ينصرف إلى الكامل، وهو البيع الصّحيح، حتّى لو باع ما اشتراه فاسداً، بعد قبضه مكايلةً، لم يحتج المشتري الثّاني إلى إعادة الكيل‏.‏ قال أبو يوسف‏:‏ لأنّ البيع الفاسد يملك بالقبض، كالقرض‏.‏

كما ألحقوا بالمكيل والموزون المعدود الّذي لا يتفاوت، كالجوز والبيض، إذا اشترى معادّةً‏.‏ وبه قال أبو حنيفة في أظهر الرّوايتين عنه، فأفسد البيع قبل العدّ ثانياً لاتّحاد الجامع، وهو‏:‏ وجوب تعرّف المقدار، وزوال احتمال اختلاط المالين، فإنّ الزّيادة فيه للبائع، خلافاً لما روي عنهما من جواز البيع الثّاني قبل العدّ‏.‏ وقد ذكر المعدود مع المكيل والموزون في متن الكنز والتّنوير‏.‏ واستثنوا من الموزون الدّراهم والدّنانير، لجواز التّصرّف فيهما بعد القبض قبل الوزن في عقد الصّرف أو السّلم، كبيع التّعاطي، فإنّه لا يحتاج في الموزونات إلى وزن المشتري ثانياً، لأنّه صار بيعاً بالقبض بعد الوزن‏.‏

ويلاحظ أنّ الحنفيّة استثنوا من هذا الحكم - كغيرهم - المبيع مجازفةً، إذا لم يكن البائع اشترى مكايلةً، لأنّ كلّ المشار إليه للمشتري، فلا يتصوّر فيه اختلاط الملكين‏.‏

وكذلك ما إذا باع الثّوب مذارعةً، لأنّ الزّيادة للمشتري، إذ الذّرع وصف في الثّوب، لا يقابله شيء من الثّمن، بخلاف القدر‏.‏

ويبدو أنّ تحديد الأذرع ليس له ما يقابله من الثّمن في أيّامهم، لأنّ الثّوب في زمانهم، يطلق على ما يكفي كساءً واحداً، فلا تضرّ الزّيادة فيه، ولا تختلط بملك البائع، بخلاف الأثواب والأقمشة في أيّامنا، حيث تقتطع منها أذرع لتخاط ثياباً، فإنّها مقابلة بالثّمن، وتعتبر من القدر‏.‏ ومع أنّ بعض الحنفيّة أطلق تحريم البيع قبل إعادة الكيل، لكنّ الشّرّاح فسّروه بكراهة التّحريم، وذلك لأنّ النّهي في الحديث المذكور خبر آحاد، لا تثبت به الحرمة القطعيّة عند الحنفيّة‏.‏ ومع ذلك، فلا يقال لآكله‏:‏ إنّه أكل حراماً، فقد نصّ في الجامع الصّغير على أنّه‏:‏ لو أكله، وقد قبضه بلا كيل، لا يقال‏:‏ إنّه أكل حراماً، لأنّه أكل ملك نفسه، إلاّ أنّه آثم، لتركه ما أمر به من الكيل‏.‏

50 - ومع أنّ البيع قبل إعادة الكيل مكروه تحريماً، لكنّ الحنفيّة صرّحوا بفساده‏.‏

وهذه عبارة الإمام محمّد في الجامع الصّغير‏:‏ عن أبي حنيفة، قال‏:‏ إذا اشتريت شيئاً ممّا يكال أو يوزن أو يعدّ، فاشتريت ما يكال كيلاً، وما يوزن وزناً، وما يعدّ عدّاً، فلا تبعه حتّى تكيله وتزنه وتعدّه، فإن بعته قبل أن تفعل، وقد قبضته، فالبيع فاسد في الكيل والوزن‏.‏ وعلّق ابن عابدين رحمه الله تعالى على هذا بأنّ الفاسد هو البيع الثّاني، وهو بيع المشتري قبل كيله، وأنّ الأوّل وقع صحيحاً، لكنّه يحرم عليه التّصرّف فيه من أكل أو بيع حتّى يكيله، فإذا باعه قبل كيله، وقع البيع الثّاني فاسداً، لأنّ العلّة كون الكيل من تمام القبض، فإذا باعه قبل كيله، فكأنّه باع قبل القبض، وبيع المنقول قبل قبضه لا يصحّ‏.‏

51 - ويمكن أن يتّخذ التّصرّف في المكيل والموزون بعد شرائه هذه الصّور، عند الحنفيّة‏:‏ الأولى‏:‏ أن يشتري مكايلةً، ويبيع مكايلةً، ففي هذه الصّورة لا يجوز للمشتري من المشتري الأوّل أن يبيعه، حتّى يعيد الكيل لنفسه، كما كان الحكم في حقّ المشتري الأوّل، للنّهي عنه في الحديث المتقدّم، ولاحتمال الزّيادة كما تقدّم‏.‏

الثّانية‏:‏ أن يشتري مجازفةً، ويبيع كذلك مجازفةً، فلا يحتاج إلى كيل، لعدم الافتقار إلى تعيين المقدار‏.‏

الثّالثة‏:‏ أن يشتري مكايلةً، ويبيع مجازفةً، فلا يحتاج المشتري الثّاني إلى كيل، لأنّه لمّا اشتراه مجازفةً، ملك جميع ما كان مشاراً إليه، فكان متصرّفاً في ملك نفسه‏.‏

الرّابعة‏:‏ أن يشتري مجازفةً، ويبيع مكايلةً، فيحتاج إلى كيل واحد، إمّا كيل المشتري، أو كيل البائع بحضرته، لأنّ الكيل شرط لجواز التّصرّف فيما بيع مكايلةً، لمكان الحاجة إلى تعيين المقدار الواقع مبيعاً، وأمّا المجازفة فلا يحتاج إليه‏.‏

فبناءً على هذه الصّورة الأخيرة، تخرج هذه الصّورة الّتي حقّقها ابن عابدين - رحمه الله - وهي‏:‏ إذا ملك زيد طعاماً، بيع مجازفةً أو بإرث ونحوه، ثمّ باعه من عمرو مكايلةً سقط هنا صاع البائع، لأنّ ملكه الأوّل لا يتوقّف على الكيل، وبقي الاحتياج إلى كيل للمشتري فقط، فلا يصحّ بيعه من عمرو بلا كيل، فهنا فسد البيع الثّاني فقط‏.‏ ثمّ إذا باعه عمرو من بكر، فلا بدّ من كيل آخر لبكر، فهنا فسد البيع الأوّل والثّاني، لوجود العلّة في كلّ منهما‏.‏

52 - وبصدد الكيل المعتبر شرعاً، نصّ الحنفيّة على أنّه‏:‏

أ - لا معتبر بكيل البائع قبل البيع من المشتري الثّاني، وإن كان كاله لنفسه بحضرة المشتري عن شرائه هو، لأنّه ليس صاع البائع والمشتري، وهو الشّرط بالنّصّ‏.‏

ب - ولا معتبر بكيله بعد البيع الثّاني، بغيبة المشتري، لأنّ الكيل من باب التّسليم، لأنّ به يصير المبيع معلوماً، ولا تسليم إلاّ بحضرته‏.‏

ج - وإن كاله أو وزنه بعد البيع، بحضرة المشتري، ففيه اختلاف المشايخ‏:‏

- قيل‏:‏ لا يكتفى به، ولا بدّ من الكيل أو الوزن مرّتين، احتجاجاً بظاهر الحديث‏.‏

- وقال عامّتهم‏:‏ كفاه ذلك، حتّى يحلّ للمشتري التّصرّف فيه قبل كيله ووزنه إذا قبضه، وهذا هو الصّحيح، لأنّ الغرض من الكيل والوزن صيرورة المبيع معلوماً، وقد حصل ذلك بكيل واحد، وتحقّق معنى التّسليم‏.‏ وقد بحث البابرتيّ، في الاكتفاء بالكيل الواحد في هذه الصّورة، ونظر إلى تعليل الحكم في الأصل، باحتمال الزّيادة على المشروط، وقرّر‏:‏ أنّ مقتضى ذلك الاكتفاء بالكيل الواحد في أوّل المسألة أيضاً، وقال‏:‏ ولو ثبت أنّ وجوب الكيلين عزيمة، والاكتفاء بالكيل الواحد رخصة، أو قياس واستحسان، لكان ذلك مدفعاً جارياً على القوانين ‏(‏أي القواعد‏)‏ لكن لم أظفر بذلك‏.‏

خ - بيع الكالئ بالكالئ‏:‏

53 - الكالئ مأخوذ من‏:‏ كلأ الدّين يكلأ، مهموز بفتحتين، كلوءاً‏:‏ إذا تأخّر، فهو كالئ بالهمز، ويجوز تخفيفه، فيصير مثل القاضي‏.‏ وكان الأصمعيّ لا يهمزه‏.‏ قال‏:‏ هو مثل القاضي، ولا يجوز همزه‏.‏ وبيع الكالئ بالكالئ هو‏:‏ بيع النّسيئة بالنّسيئة‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ صورته‏:‏ أن يسلّم الرّجل الدّراهم في طعام إلى أجل، فإذا حلّ الأجل يقول الّذي عليه الطّعام‏:‏ ليس عندي طعام ولكن بعني إيّاه إلى أجل‏.‏ فهذه نسيئة انقلبت إلى نسيئة‏.‏ فلو قبض الطّعام، ثمّ باعه منه أو من غيره، لم يكن كالئاً بكالئ‏.‏

ولا يخرج المعنى الشّرعيّ عن المعنى اللّغويّ، إذ هو بيع الدّين بالدّين‏.‏

وقد ورد النّهي عنه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ»، وقال‏:‏ «هو النّسيئة بالنّسيئة»‏.‏

وفسّر أيضاً ببيع الدّين، كما ورد التّصريح به في رواية‏.‏

وفي بيع الدّين صورتان‏:‏ بيعه من المدين نفسه، وبيعه من غيره‏.‏

ولا يختلف الفقهاء في عدم جواز بيع الدّين من غير مَنْ عليه الدّين‏.‏

وإنّما اختلفوا في جواز بيعه ممّن هو عليه، وجمهورهم - بوجه عامّ - لا يجيزه، إلاّ في أحوال معيّنة، خلافاً للحنفيّة‏.‏ وفيما يلي عرض لأهمّ الصّور والتّقاسيم الّتي يطرحها الفقهاء في هذا الصّدد، مع تبيان أحكامها‏.‏

54 - مذهب المالكيّة‏:‏ ويتّخذ العقد على الدّين عندهم صوراً شتّى‏:‏

أ - فسخ ما في ذمّة المدين أي إسقاطه في شيء يتأخّر قبضه عن وقت الفسخ، سواء أحلّ الدّين المفسوخ أم لا، إن كان المؤخّر من غير جنسه أو من جنسه بأكثر منه، وسواء أكان المفسوخ فيه معيّناً كالعقار، أم كان منافع ذات معيّنة كركوب دابّة‏.‏ فهذا غير جائز، وهو من ربا الجاهليّة، وهو أشدّ الأنواع تحريماً، وتحريمه بالكتاب‏.‏

ب - بيع الدّين بدين لغير من هو عليه ولو حالاً‏:‏ وهذا ممنوع بالسّنّة‏.‏

فمن له دين على زيد، ولآخر دين على عمرو، فباع كلّ منهما دينه بدين صاحبه، كان محرّماً بالسّنّة، وهو فاسد‏.‏

أمّا بيعه بمعيّن يتأخّر قبضه كعقار، أو بمنفعة ذات معيّنة، كما لو كان لزيد دين على عمرو، فباع زيد ذلك الدّين لخالد بما ذكر، فإنّه جائز‏.‏ وقد اعتبر العقار ومنافع الذّات المعيّنة من قبيل الحاضر ولو تأخّر تسليمه، لأنّ ذلك ليس ممّا يضمن في الذّمّة إذ لا تثبت المعيّنات في الذّمّة فهما نقد بهذا المعنى‏.‏ أي حاضر ينقد ولا يثبت بالذّمّة‏.‏

ج - تأخير رأس مال السّلم أكثر من ثلاثة أيّام، وهو عين، فهذا منهيّ عنه غير جائز، لما فيه من ابتداء دين بدين‏.‏ ووجه كون هذا من ابتداء الدّين بالدّين، أنّ كلّاً منهما شغل ذمّة صاحبه بدين له عليه‏.‏ أمّا لو كان رأس المال غير عين، فإنّه يجوز تأخيره أكثر من ثلاثة أيّام، إن لم يكن بشرط‏.‏ فكلّ واحد من هذه الصّور الثّلاث يقال له بيع الدّين بالدّين لغةً، إلاّ أنّ فقهاء المالكيّة سمّوا كلّ واحد منها باسم يخصّه‏.‏

هذه أقسام بيع الدّين بالدّين عند المالكيّة إذاً وأحكامها‏.‏

أمّا بيع الدّين بالنّقد، فإنّه لا يجوز، إلاّ إذا كان المدين حيّاً حاضراً في البلد، وإن لم يحضر مجلس البيع، وأقرّ بالدّين، وكان ممّن تأخذه الأحكام ‏(‏أي من المكلّفين‏)‏، وبيع الدّين بغير جنسه، أو بيع بجنسه وكان متساوياً، لا أنقص ولا أزيد، وليس ذهباً بفضّة ولا عكسه، وليس بين المشتري والمدين عداوة‏.‏

ويشترط أن يكون الدّين ممّا يجوز أن يباع قبل قبضه، وهذا احتراز من طعام المعاوضة‏.‏ قال الدّسوقيّ‏:‏ فإن وجدت تلك الشّروط جاز بيعه، وإن تخلّف شرط منها منع البيع‏.‏

55 - ومذهب الشّافعيّ الجديد، وهو رواية عن الإمام أحمد‏:‏ جواز الاستبدال عن الثّمن الّذي في الذّمّة‏.‏ ومذهبه القديم هو المنع‏.‏

ودليل المذهب الجديد، وهو نفسه دليل الحنابلة في هذه الرّواية، حديث «ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ كنت أبيع الإبل بالدّنانير، وآخذ مكانها الدّراهم، وأبيع بالدّراهم، وآخذ مكانها الدّنانير، فأتيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فقال‏:‏ لا بأس إذا تفرّقتما وليس بينكما شيء»‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا تصرّف في الثّمن قبل قبضه، وهو أحد العوضين‏.‏ ودليل المذهب القديم‏:‏ حديث‏:‏ «إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتّى تقبضه»‏.‏

فإن استبدل بموافق في علّة الرّبا، كدراهم بدنانير، اشترط قبض البدل في المجلس‏.‏

وإن استبدل بغير موافق في علّة الرّبا، كما لو اشترى ثوباً بدراهم في الذّمّة، لم يشترط ذلك‏.‏ أمّا بيع الدّين لغير من هو عليه، فباطل في الأظهر من مذهب الشّافعيّة، وهو باطل أيضاً في مذهب الحنابلة‏.‏ كما لو اشترى ثوباً من زيد بمائة له على عمرو، وذلك لعدم القدرة على التّسليم‏.‏ وفي قول ثان للشّافعيّة، يصحّ، وصحّحه في أصل الرّوضة، مخالفاً للرّافعيّ، وهو المعتمد، نظراً لاستقرار الدّين، كبيعه ممّن هو عليه‏.‏

لكن يشترط في هذا قبض العوضين في المجلس، فلو تفرّقا قبل قبض أحدهما في البيع‏.‏ وإن كان مقتضى كلام الأكثرين يخالفه، كما ذكره المحلّيّ‏.‏

أمّا لو كان لزيد وعمرو دينان على شخص، فباع زيد عمراً دينه بدينه، بطل قطعاً بلا خلاف، اتّفق الجنس أو اختلف، وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ»‏.‏

56 - ومذهب الحنابلة بطلان بيع الدّين بدين ممّن هو عليه، أو من غيره مطلقاً‏.‏ وذكروا له صوراً، سوى ما وافقوا فيه مذهب الشّافعيّة من بعض الصّور ممّا ذكرنا‏.‏ وقال في ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على أنّ بيع الدّين بالدّين لا يجوز‏.‏ وقال أحمد‏:‏ إنّما هو إجماع

57 - بقي أن نشير إلى موقف الحنفيّة المتميّز بالتّفرقة بين بيع الدّين ممّن هو عليه، وبين بيعه مِنْ غير مَنْ هو عليه، وأنّ التّصرّف الجائز في الدّين، هو تمليكه ممّن عليه الدّين، ولو بعوض، ولا يجوز من غيره كما نقله الحصكفيّ عن ابن ملك‏.‏

واستثنوا ثلاث صور أجازوا فيها تمليك الدّين لغير من هو عليه‏.‏

الأولى‏:‏ إذا سلّط الدّائن غيره على قبض الدّين، فيكون وكيلاً قابضاً للموكّل، ثمّ لنفسه‏.‏ الثّانية‏:‏ الحوالة واستثناء جوازها إجماع - كما صرّح به الشّافعيّة‏.‏

الثّالثة‏:‏ الوصيّة‏.‏ ومعنى عدم الجواز هنا‏:‏ عدم الانعقاد، وبذلك عبّر الكاسانيّ فقال‏:‏ ولا ينعقد بيع الدّين من غير من عليه الدّين، لأنّ الدّين إمّا أن يكون عبارةً عن مال حكميّ في الذّمّة، وإمّا أن يكون عبارةً عن فعل تمليك المال وتسليمه، وكلّ ذلك غير مقدور التّسليم في حقّ البائع‏.‏ ولو شرط التّسليم على المدين لا يصحّ أيضاً، لأنّه شرط التّسليم على غير البائع، فيكون شرطاً فاسداً، فيفسد البيع‏.‏ ويجوز بيعه ممّن هو عليه، لأنّ المانع هو العجز عن التّسليم، ولا حاجة إلى التّسليم هاهنا‏.‏ ونظيره بيع المغصوب، فإنّه يصحّ من الغاصب، ولا يصحّ من غيره، إذا كان الغاصب منكراً، ولا بيّنة للمالك‏.‏ ويمكن لزيادة التّفصيل والتّصوير، في بيع الكالئ بالكالئ، مراجعة مصطلح‏:‏ ‏(‏ربا، صرف، دين‏)‏‏.‏

د - بيع اللّحم بالحيوان‏:‏

58 - ورد فيه حديث سعيد بن المسيّب «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللّحم بالحيوان» وفي لفظ‏:‏ «نهى عن بيع الحيّ بالميّت»‏.‏

ويتوزّع البحث في هذه المسألة على النّقاط التّالية‏:‏

أوّلاً‏:‏ هل اللّحم كلّه جنس واحد ‏؟‏

59 - هذه مسألة خلافيّة بين الفقهاء، وهي كالأصل بالنّسبة إلى ما بعدها‏.‏

- أ - فمذهب الحنفيّة، ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة، والأصحّ عند الحنابلة‏:‏ هو أنّ اللّحم أجناس، باختلاف أصوله‏:‏ فالإبل بأنواعها - العرّاب والبخاتيّ والهجين، وذي السّنامين، وذي السّنام الواحد - كلّها جنس واحد، فكذا لحومها‏.‏ والبقر والجواميس جنس واحد‏.‏ والغنم والمعز جنس واحد‏.‏ ويحتمل أن يكونا صنفين، لأنّ القرآن فرّق بينهما كما فرّق بين الإبل والبقر، فقال‏:‏ ‏{‏ثمانيةَ أزواجٍ‏:‏ من الضّأْنِ اثنينِ ومن المعزِ اثنين‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ومِنَ الإبِلِ اثنين، ومن البقرِ اثنينِ‏}‏‏.‏

والوحش أصناف‏:‏ بقرها صنف، وغنمها صنف، وظباؤها صنف‏.‏

والطّير أصناف، كلّ ما انفرد باسم وصفة فهو صنف‏.‏

- ب - والأظهر عند الشّافعيّة، وقول الخرقيّ من الحنابلة، ورواية عن الإمام أحمد‏:‏ أنّ اللّحم كلّه جنس واحد‏.‏

- ج - ويبدو من تمثيل المالكيّة للجنس الواحد ببيع لحم بقريّ بكبش حيّ، ولغير الجنس ببيع الحيوان الحيّ بلحم طير أو سمك‏:‏ أنّهم يعتبرون لحوم الأنعام جنساً، ولحوم الطّير جنساً، ولحوم الأسماك جنساً‏.‏ ونصّ ابن جزيّ على أنّ اللّحوم عند مالك ثلاثه أصناف‏:‏ فلحم ذوات الأربع صنف، ولحم الطّيور صنف، ولحم الحيتان صنف‏.‏

ثانياً‏:‏ بيع اللّحم بحيوان من جنسه‏:‏

60 - لا يستجيز جمهور الفقهاء بيع اللّحم بحيوان من جنسه، كلحم شاة بشاة حيّة، وذلك‏:‏ للنّهي عن بيع اللّحم بالحيوان في الحديث المتقدّم - كما يقول الشّافعيّة - ولأنّه مال ربويّ، بيع بما فيه من جنسه مع جهالة المقدار، فلم يجز كبيع السّمسم بالشّيرج‏.‏ ولأنّه بيع معلوم - وهو اللّحم - بمجهول وهو الحيوان، وهو المزابنة، كما يقول المالكيّة‏.‏

فهذا قول مالك، وهو محمل الحديث عنده‏:‏ أن يباع حيوان مباح الأكل بلحم من جنسه، وهو مذهب الشّافعيّ، وهو أيضاً المذهب عند الحنابلة، بلا خلاف‏.‏ وأجاز الحنفيّة هذا البيع، ولكن‏:‏ منهم من اعتبرهما جنسين مختلفين ‏(‏لأنّ أحدهما موزون، والآخر معدود‏)‏ فبنوا عليه جواز بيعهما مجازفةً، عند أبي حنيفة وأبي يوسف، لأنّه باع الجنس بخلاف الجنس‏.‏ ومنهم من اعتبرهما جنساً واحداً، وبنوا مذهبهما - أي مذهب الشّيخين - على أنّ الشّاة ليست بموزونة، فيجوز بيع أحدهما بالآخر، مجازفةً ومفاضلةً، لأنّ ربا الفضل يعتمد اجتماع الوصفين‏:‏ الجنس والقدر، لكن بشرط التّعيين كما عبّر الحصكفيّ ‏(‏أي التّقابض‏)‏ أو يداً بيد، كما عبّر الكاسانيّ - وقال‏:‏ هو الصّحيح - والبابرتيّ‏.‏

أمّا نسيئةً فلا يجوز، لأنّهما عندئذ سلم، وهو في كلّ منهما غير صحيح، كما نقله ابن عابدين عن النّهر‏.‏ لكنّ الإمام محمّداً، شرط في جواز بيع اللّحم بحيوان من جنسه، أن يكون اللّحم المفرز أكثر من الّذي في الشّاة، ليكون لحم الشّاة بمقابلة مثله من اللّحم، والباقي بمقابلة الإسقاط، إذ لو لم يكن كذلك يتحقّق الرّبا، فلا يجوز عنده، وذلك عملاً بالحديث المتقدّم‏.‏ ولأنّهما جنس واحد، ولهذا لا يجوز بيع أحدهما بالآخر نسيئةً، فكذا متفاضلاً، كالزّيت بالزّيتون‏.‏

ثالثاً‏:‏ بيع اللّحم بحيوان من غير جنسه‏:‏

61 - كبيع الشّاة الحيّة بلحم الإبل أو البقر عند غير المالكيّة، وكبيع الشّاة الحيّة بلحم طير أو سمك عند المالكيّة‏.‏

أجاز هذه الصّورة جمهور الفقهاء، من الحنفيّة والمالكيّة، وهو غير الأظهر عند الشّافعيّة، اختاره القاضي من الحنابلة، ورواية عن الإمام أحمد، عليها متن الإقناع‏.‏

وعلّل ذلك الحنفيّة، بأنّهما أصلان مختلفان، فهما جنسان مختلفان فيجوز بيعهما ‏(‏مطلقاً‏)‏ مجازفةً، نقداً ونسيئةً، لانعدام الوزن والجنس، فلا يتحقّق الرّبا أصلاً‏.‏

ومع أنّ المالكيّة أجازوا - على اصطلاحهم في أجناس اللّحوم - بيع اللّحم بغير جنسه مطلقاً، لكنّهم قيّدوه بأن يكون حالاً‏.‏ أمّا إن كان إلى أجل فلا يجوز، إذا كان الحيوان لا يراد للقنيّة، وإلاّ فيجوز بيعه بلحم من غير جنسه لأجل‏.‏

كما قرّر الشّافعيّة أنّ القول بالجواز مبنيّ على أنّ اللّحوم أجناس، وعلّلوا الجواز بأنّه قياس على بيع اللّحم باللّحم‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا في المأكول، وأمّا في غيره فوجه الجواز فيه هو‏:‏ أنّ سبب المنع بيع مال الرّبا بأصله المشتمل عليه، ولم يوجد ذلك هنا‏.‏

وعلّل من قال من الحنابلة بجوازه‏:‏ بأنّه مال الرّبا بيع بغير أصله فجاز، كما لو باعه بالأثمان‏.‏ ولم يجز هذه الصّورة - أعني بيع اللّحم بحيوان من غير جنسه - الشّافعيّة في الأظهر من أقوالهم، ولا الحنابلة في الظّاهر من مذهبهم، وصرّحوا بالبطلان، وذلك‏:‏ لعموم نصّ الحديثين السّابقين‏.‏ ولأنّ اللّحم كلّه جنس واحد‏.‏

ويلاحظ أنّ صاحب الشّرح الكبير الحنبليّ صرّح بأنّ سبب الاختلاف في بيع اللّحم بغير جنسه، مبنيّ على الاختلاف في اللّحم، فإنّ القائلين بأنّه جنس واحد لا يجيزون البيع، والقائلون بأنّه أجناس يجيزونه‏.‏ كما يلاحظ أنّ الشّافعيّة‏:‏ أطلقوا اللّحم في الحديث، حتّى لو كان لحم سمك أو ألية أو كبداً أو طحالاً‏.‏ وأطلقوا الحيوان، حتّى لو كان سمكاً أو جراداً، مأكولاً كالإبل، أو غير مأكول كالحمار، فبيع اللّحم بالحيوان عندهم باطل مطلقاً في الأظهر‏.‏

رابعاً‏:‏ بيع اللّحم بحيوان غير مأكول‏:‏

62 - الجمهور من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على جواز هذه الصّورة، وهو قول عند الشّافعيّة‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ وإن باعه بحيوان غير مأكول جاز في ظاهر قول أصحابنا، وهو قول عامّة الفقهاء‏.‏ كما علّل الشّافعيّة ما ذهب إليه بعضهم من الجواز في هذه الصّورة‏:‏ بأنّ سبب المنع هو بيع مال الرّبا بأصله المشتمل عليه، ولم يوجد ذلك هنا‏.‏ لكنّ الأظهر عندهم - كما تقدّم آنفاً - تحريم بيع اللّحم بالحيوان بإطلاق للحديث‏.‏

ذ - بيع الرّطب بالتّمر‏:‏

63 - ورد النّهي عن بيع الرّطب بالتّمر في حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ سئل عن بيع الرّطب بالتّمر، فقال‏:‏ أينقص الرّطب إذا جفّ ‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ فلا إذاً» وفي رواية أنّه قال‏:‏ «لا يباع رطب بيابس»‏.‏

ولا يستجيز جمهور الفقهاء‏:‏ مالك والشّافعيّ وأحمد والصّاحبان من الحنفيّة هذا البيع، ونحوه‏:‏ كالعنب بالزّبيب، واللّبن بالجبن، والحنطة الرّطبة باليابسة، وذلك‏:‏

للحديث المذكور، قالوا‏:‏ وفيه إشارة إلى أنّ المماثلة تعتبر عند الجفاف، وإلاّ فالنّقص أوضح من أن يسأل عنه، وهي مجهولة الآن‏.‏

ولأنّه جنس فيه الرّبا، بيع بعضه ببعض، على وجه ينفرد أحدهما بالنّقصان، فلم يجز‏.‏ وعبارة الخرقيّ ولا يباع شيء من الرّطب بيابس من جنسه، إلاّ العرايا‏.‏

وربّما اعتبره بعض المالكيّة من المزابنة، وهي - بتفسير ابن جزيّ - بيع شيء رطب بيابس من جنسه، سواء أكان ربويّاً أم غير ربويّ، فتمتنع في الرّبويّ، لتوقّع التّفاضل والغرر، وتمتنع في غير الرّبويّ للنّهي الوارد عنها في الحديث، وللغرر‏.‏

64 - وتفرّد أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - بالقول بالجواز - كما يقول الكمال بن الهمام ومتون الحنفيّة عليه‏.‏ ونصّ الحصكفيّ على أنّه‏:‏ يجوز بيع رطب برطب، أو بتمر متماثلاً‏.‏‏.‏ في الحال لا المآل، خلافاً لهما، فلو باع مجازفةً لم يجز اتّفاقاً‏.‏

وقد استدلّ أبو حنيفة بحديث عبادة بن الصّامت رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد»‏.‏

ففي وجه الاستدلال بهذا الحديث يقول أبو حنيفة‏:‏

الرُّطَب‏:‏ إمّا أن يكون تمراً، أو لا يكون‏.‏ فإن كان تمراً، جاز العقد عليه، لقوله في أوّل الحديث‏:‏ «التّمر بالتّمر»، وإن كان غير تمر، جاز العقد عليه أيضاً، لقوله في آخر الحديث‏:‏ «إذا اختلف النّوعان فبيعوا كيف شئتم»‏.‏ ولم يأخذ بحديث النّهي السّابق لأنّه دائر على زيد بن عيّاش، وزيد بن عيّاش ممّن لا يقبل حديثه وهو مجهول وعلى تقدير صحّته، فقد ورد بلفظ «نهى عن بيع الرّطب بالتّمر نسيئةً» وهذه زيادة يجب قبولها‏.‏ ولاستكمال مبحث بيع الرّطب بالتّمر، وما يتّصل به من التّفاصيل والأحكام‏.‏

يراجع مصطلح ‏(‏رباً‏)‏‏.‏

ر- بيع وسلف‏:‏

65 - ورد فيه حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك» وفي رواية «عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّه قال‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ إنّا نسمع منك أحاديث، أفتأذن لنا بكتابتها ‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فكان أوّل ما كتب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكّة‏:‏ لا يجوز شرطان في بيع واحد، ولا بيع وسلف جميعاً، ولا بيع ما لم يضمن‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

وقد فسّر محمّد بن الحسن رحمه الله تعالى السّلف والبيع بأنّه قول الرّجل للرّجل‏:‏ أبيعك داري هذه بكذا وكذا، على أن تقرضني كذا وكذا‏.‏ وبهذا تئول المسألة إلى موضوع البيع بشرط، ولا يختلف الفقهاء في فساد البيع بذلك، في الجملة‏.‏

وصرّح ابن جزيّ بأنّ البيع باشتراط السّلف من أحد المتبايعين لا يجوز بإجماع، وإن يكن بطلان الشّرط وحده روايةً واحتمالاً عند الحنابلة‏.‏

والمالكيّة، حينما تحدّثوا عن بيوع الآجال - وهي بيوع ظاهرها الجواز، لكنّها تؤدّي إلى ممنوع - منعوا بيع ما كثر قصد النّاس إليه، توصّلاً إلى الرّبا الممنوع، كأن كان جائزاً في الظّاهر، وذلك للتّهمة، وسدّ الذّريعة، ومثّلوا لها‏:‏ باجتماع بيع وسلف، أو سلف جرّ منفعةً، أو ضمان بجعل‏.‏ وصوّروا البيع والسّلف بصور ثلاث‏:‏

الأولى‏:‏ بيع جائز في الظّاهر يؤدّي - كما يقول الدّردير - إلى بيع وسلف، فإنّه يمنع للتّهمة، على أنّهما قصدا البيع والسّلف الممنوع‏.‏ وذلك كأن يبيع سلعتين بدينارين لشهر، ثمّ يشتري إحداهما بدينار نقداً، فآل الأمر إلى أنّ البائع أخرج من يده سلعةً وديناراً نقداً، لأنّ السّلعة الّتي خرجت من يده ثمّ عادت إليها ملغاة كما يقول الدّسوقيّ ثمّ أخذ عنهما عند الأجل دينارين، أحدهما عن السّلعة وهو بيع، والآخر عن الدّينار وهو سلف‏.‏

فهذه الصّورة تؤدّي إلى بيع وسلف، وهو جائز في ظاهره، ولا خلاف في المذهب في منعه، صرّح بذلك ابن بشير وتابعوه، وغيرهم‏.‏

وحيث تكرّر في هذه الصّورة البيع، منعت عندهم، لتهمة قصد البيع والسّلف‏.‏

الثّانية‏:‏ بيع وسلف بشرط من البائع أو المشتري‏.‏ وهذه الصّورة ممنوعة غير جائزة، لأنّ الانتفاع بالقرض هو من جملة الثّمن، إن كان شرط السّلف صادراً من البائع، أو هو من جملة المثمّن - أي المبيع - إن كان شرط السّلف صادراً من المشتري، ففيه سلف جرّ نفعاً‏.‏ الثّالثة‏:‏ بيع وسلف بلا شرط، لا صراحةً ولا حكماً، وهي جائزة على المعتمد‏.‏

ز- بيع وشرط‏:‏

66 - ورد النّهي في السّنّة عن ‏(‏بيع وشرط‏)‏ ومن ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط»‏.‏

وينظر تفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏بيع، وشرط‏)‏

أسباب النّهي المتعلّقة بالغرر

67 - هذا هو السّبب الثّاني من أسباب النّهي عن البيع، ممّا يتعلّق بلازم العقد، وكان الأوّل هو الرّبا‏.‏ وقد ورد النّهي عن بيوع الغرر، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر»‏.‏ وغيره ممّا سيأتي‏.‏ والغرر في اللّغة هو‏:‏ الخطر‏.‏

وله في اصطلاح الفقهاء تعريفات شتّى‏.‏ فهو عند الحنفيّة‏:‏ ما طوي عنك علمه‏.‏

وعند بعض المالكيّة‏:‏ التّردّد بين أمرين‏:‏ أحدهما على الغرض، والثّاني على خلافه‏.‏

وعند الشّافعيّة‏:‏ ما انطوت عنّا عاقبته، أو‏:‏ ما تردّد بين أمرين أغلبهما أخوفهما‏.‏

ويرى بعض المالكيّة أنّ الغرر والخطر لفظان مترادفان بمعنًى واحد، وهو ما جهلت عينه‏.‏ ويرى المحقّقون منهم أنّهما متباينان‏:‏

فالخطر‏:‏ ما لم يتيقّن وجوده، كما لو قال‏:‏ بعني فرسك بما أربح غداً‏.‏

والغرر‏:‏ ما يتيقّن وجوده، ويشكّ في تمامه، كبيع الثّمار قبل بدوّ صلاحها‏.‏

68 - وقد تقدّمت صور ينطبق عليها الغرر، عند الكلام عن شروط انعقاد البيع، منها‏:‏ كون المبيع مالاً موجوداً مملوكاً مقدور التّسليم، فلا يصحّ بيع الحمل في بطن أمّه، ولا ما سيخرجه الصّيّاد في شبكته، ولا الطّير في الهواء، ولا الجمل الشّارد‏.‏ إلخ‏.‏

والغرر نوعان‏:‏ أحدهما‏:‏ ما يرجع إلى أصل وجود المعقود عليه، أو ملكيّة البائع له، أو قدرته على تسليمه، فهذا يوجب بطلان البيع، فلا ينعقد البيع اتّفاقاً في شيء من ذلك‏.‏ والآخر‏:‏ ما يرجع إلى وصف في المعقود عليه أو مقداره، أو يورث فيه أو في الثّمن أو في الأجل جهالةً‏.‏ فهذا محلّ خلاف‏.‏ تفصيله في مصطلح ‏(‏غرر‏)‏‏.‏

وفيما يلي صور الغرر الّتي ورد النّهي فيها بخصوصها، والحكم الفقهيّ فيها، من البطلان أو الفساد‏.‏ إذ النّهي عن بيع الغرر - كما يقول النّوويّ - أصل من أصول الشّرع، يدخل تحته مسائل كثيرة جدّاً‏.‏ منها‏:‏ بيع الحصاة وبيع الملامسة وبيع المنابذة‏.‏ وتنظر في مصطلحاتها‏.‏ ومنها ما يلي‏:‏

أ - بيع الجنين وهو في بطن أمّه‏:‏

69 - وهو بيع الحمل، كما عبّرت بعض المراجع الفقهيّة‏.‏

والجنين هو‏:‏ الولد ما دام في بطن أمّه، ويجمع على أَجِنّةً، كدليل وأدلّة‏.‏ ومثل الجنين أيضاً‏:‏ الملقوح والملقوحة، وجمعهما ملاقيح، وهي‏:‏ ما في الأرحام والبطون من الأجنّة، بتفسير الحنفيّة والجمهور، خلافاً للمالكيّة في تفسير الملاقيح بما في ظهور الفحول‏.‏ وورد النّهي في الحديث عن بيع الجنين ما دام مجتنّاً حتّى يولد، عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال‏:‏ «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتّى تضع»‏.‏ وتقدّم الإجماع - كما صرّح ابن المنذر - على بطلان هذا البيع ‏(‏ر‏:‏ ف 5‏)‏ للنّهي عنه في الحديث وللغرر، فعسى أن لا يولد، ولأنّ فيه جهالةً في صفته وحياته، ولأنّه غير مقدور على تسليمه‏.‏ وذكره هنا للغرر فقط، لكنّه من النّوع الأوّل منه، وهو الغرر المتعلّق بالمعقود عليه نفسه، من حيث أصل وجوده، ولهذا كان النّهي عنه مستوجباً للبطلان عند الجميع، حتّى في اصطلاح الحنفيّة، الّذين يفرّقون بين البطلان - وبين الفساد‏.‏

ب - بيع الثّمر قبل أن يبدو صلاحه‏:‏

70 - ويسمّى أيضاً المخاضرة، كما ورد في بعض النّصوص‏.‏ وورد النّهي عن ذلك في أحاديث كثيرة منها‏:‏ حديث ابن عمر رضي الله عنهما «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثّمار حتّى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع» وفي لفظ آخر‏:‏ «نهى عن بيع النّخل حتّى تزهو، وعن بيع السّنبل حتّى يبيضّ ويأمن العاهة»‏.‏ وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «لا تبتاعوا الثّمار حتّى يبدو صلاحها»‏.‏ وجاء مفسّراً في حديث أنس رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثّمرة حتّى يبدو صلاحها، وعن بيع النّخل حتّى يزهو، قيل‏:‏ ما يزهو ‏؟‏ قال‏:‏ يَحْمارّ أو يَصْفارّ»‏.‏ وفي بعض الرّوايات عن أنس «حتّى تُزهي، فقيل له‏:‏ وما تزهي ‏؟‏ قال‏:‏ تحمرّ»‏.‏ كما جاء بدوّ الصّلاح مفسّراً في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال‏:‏ «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الثّمرة حتّى يبدو صلاحها»‏.‏ «وكان إذا سئل عن صلاحها، قال‏:‏ حتّى تذهب عاهتها»‏.‏ وفي حديث أنس رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع العنب حتّى يسودّ، وعن بيع الحبّ حتّى يشتدّ»‏.‏

وورد في الصّحيح التّعبير بلفظ ثالث، وهو‏:‏ التّشقيح، وهذا في حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال‏:‏ «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن تباع الثّمرة حتّى تشقح فقيل‏:‏ ما تشقح ‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ تَحْمارّ وتصفارّ، ويؤكل منها»‏.‏